المتأمل في كثيرٍ من المشكلات التي يواجهها الفرد والمجتمعُ، ستجدها نتاج عدم التثبُّت، ووليدة التسرُّع في إصدار الأحكام، وهذا يعود إلى جهلِ بعض المسلمين بتوجيهات الشريعة الإسلامية من جهة، أو إلى الغفلة وعدم الاهتمام بالالتزام العملي بها من جهة ثانية، ولا شك أن لهذا الأمر خطورة وعواقب وخيمة. «الجزيرة» التقت عددًا من المختصين في العلوم الشرعية للحديث حول أهمية التثبت والتأني في إصدار الأحكام على الناس، والسبل الكفيلة للتغلب على هذه السلوك المشين الذي ترفضه وتنهى عنه تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف. الخلق الوقائي يقول الدكتور نايف بن أحمد الحمد قاضي الاستئناف: إن الله -جل جلاله- فرض على عباده المؤمنين في علاقاتهم مع الآخرين أمورًا ألزمهم التحلي بها؛ حفظًا لأواصر المحبة، واستبقاء للمودة، خاصة في العلاقة بين الأقارب والجيران، ودفعًا للظلم وإساءة الظن بالآخرين، في العلاقات العامة والخاصة، وهي خُلُق وقائي، إنه «خُلق التثبت» فبعض الناس بُلي «بعبث بالقول، وإرسال للسان على غير روية، ولا حسن تقدير» قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وفي قراءة متواترة (فتثبتوا) (الحجرات6) فناقل الأخبار لا يخلو من كونه مريدًا للخير للمنقول إليه الخبر، أو مريدًا الإضرار بغيره، وهذه هي النميمة التي صح عنه -صلى الله عليه وسلم- (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ) رواه مسلم، وهذا خُلق يستلذ به بعضهم للإضرار (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) فالنمام فاسق باتفاق العلماء؛ لذا ألزمنا الله -تعالى- بالتبين من أخباره التي ينقلها ويبثها في المجتمع؛ لما يُخشى من سوء عواقبها والندم على ذلك؛ ف»أصل العقل التثبت، وثمرته السلامة» «وسوء التثبت أسرع في إفساد العقل من النار في يبيس العوسج»، فكم عاق لوالديه، وقاطع لرحمه، ومفارق لزوجته، وهاجر لإخوته وأقاربه، ومعادٍ لجيرانه؛ لخبر سمعه من غيره لم يتبين ويتثبت من صحته، ثم تبين له خلافه فندم ولات ساعة مندم، وهدي نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ) رواه أبو يعلى، «ولو كان للعقل أبوان لكان أحدهما الصبر والآخر التثبت» «وآفة الأخبار رواتها» وقد صح الخبر عن سيد البشر -صلى الله عليه وسلم- (التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ) صححه الحاكم والتؤدة التأني والتثبت. وذو التثبت مِن حمد إلى ظفر من يركب الرفق لا يستحقب الزللا خطورته وسبل علاجه ويؤكد الدكتور رياض بن حمد بن عبدالله العُمري أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن التثبت ضرورة عقلية ومنهج شرعي واجب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، وفي الحقيقة إن عدم التثبت من الظواهر التي بدأت تنتشر بشكل مخيف في الآونة الأخيرة ولعل من أسباب ذلك تطور وسائل التقنية الحديثة التي أسهمت كثيرًا في سرعة نقل المعلومة بغض النظر عن مدى صحتها. وتكمن الخطورة في مسألة عدم التثبت تأتي من جهة الأحكام التي يرتبها الناس على المعلومة رغم عدم تثبتهم منها، فكم من علاقات قطعت وكم من عداوات نشأت بسبب معلومة خاطئة أو نميمة مغرضة سببت ويلات طلاق وعقوق وقطيعة رحم وهجرانًا بين أصدقاء ناهيك عن معلومات خاطئة أخرى في مسائل شرعية أو طبية وعلاجية أو أمنية سبب العمل بها فساد في الدين والبدن والأمن. ويشير د.رياض العمري إلى أنه ينبغي للعاقل حينها أن يراعي في هذه المسألة عدة جوانب مهمة: أولها: تقديم المسلم حسنَ الظن بأخيه المسلم، وأن يُنزّل أخاه المسلم بمنزلته. فلا يتعجل في الحكم عليه دون أن يتثبت في الأمر كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) وقوله: (لَوْلَا إذ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) «النور: 12». ثانيًا: السؤال عن الدليل قبل تصديق التهم والإشاعات. فلا ينبغي للمسلم العاقل أن يكون أذنًا لكل ناعق، بل عليه التحقق والتبين وطلب البراهين الواقعية، والأدلة الموضوعية، وبذلك يسد الطريق أمام المفترين والمدعين الذين لا هم لهم سوى النيل من أعراض الناس. ثالثًا: أن لا ينقل الإنسان كل ما يسمعه أو يقرأه مباشرة من غير تبين ولا تثبت -كما نشاهده كثيرًا في وسائل التواصل- فإن هذا مظنة أن يقع الإنسان في الإثم والكذب على الآخرين. كما قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبًا، أن يُحدّث بكل ما سمع» رواه مسلم. مع التنبيه إلى أن خطورة المعلومة توجب زيادة التثبت والتحقق فالمعلومات المتعلقة بالشرع وأمن الأوطان وصحة الأبدان غاية في الخطورة لا ينبغي التهاون في نقلها دون تثبت أو تحرٍ. التثبت والتبين ويبين الدكتور عبدالرحمن بن سعيد الحازمي مدير الأكاديمية العالمية للدراسات والتدريب برابطة العالم الإسلامي أن أهم توجيه شرعي يؤكد التثبت وعدم التسرع في إصدار الأحكام الشرعية - هو قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ «الحجرات: 6». يقول السعدي رحمه الله: وهذا من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها، واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسقٌ بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا؛ فإن في ذلك خطرًا كبيرًا ووقوعًا في الإثم؛ فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكِم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حق - بسبب ذلك الخبر - ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق التثبت والتبيُّن، فإن دلَّت الدلائل والقرائن على صدقه عُمِل به وصُدِّق، وإن دلَّت على كذبه كُذِّب ولم يُعمَل به، وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشجِّ - أشجِّ عبدالقيس -: (إنَّ فيك خصلتين يحبُّهما الله: الحِلْم، والأناة)؛ رواه مسلم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تثبتًا وأناة في الأمور كلها، فكان صلى الله عليه وسلم لا يقاتل أحدًا من الكفار إلا بعد التأكد من أنهم لا يقيمون شعائر الإسلام؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَنْظُرَ: فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ. ومن تعليمه وتربيته لأصحابه صلى الله عليه وسلم على الأناة، وعدم العجلة - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إذا أُقِيمَت الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، وكان يقول عند نفرته من عرفة: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ».