ألَم تَعلَمي أنَّ المحبرةَ ذات رَحِمٍ صغيرةٍ لا تَتَخَلَّقُ فيها تَوأمَةُ القصائدِ فَمِدادُها لا يكفي لِكتابَةِ (قصيدتين دفعةً واحدةً) مهما كان الشَّجَنُ قُحًّا! ذاتَ مَسَاءٍ وَجَدتُ المحبرةَ في غُرفتي (أنثى شمطاء) نَسِيَت الطَّريقَ إلى قَفَصِ الاكتنازِ فاسترخى تاريخُها على بِساطِ التأتأة! وفي غُرفتي.. شَدَّت الأطيافُ حبالها وعَلَّقَتْ عليها رداءكِ البنفسجيَّ المهيبَ ذلك الرِّداء الذي ما زال يَعقِدُ أَلفَ عُقدَةٍ على الشَّعرةِ المرهَفَةِ التي تَحولُ بين شاعرٍ وقَصيدته! خرجتُ إلى الشُّرفَةِ وقَبَضتُ بكلتا يديَّ على سياجها وأخذتُ نَفَساً عميقاً ثُمَّ سَمَحتُ للشُّرودِ أن يبدأ التَّرَقِّي على سلالمِ البصيرةِ حتى إذا بَلَغَ الذُّروةَ طَفِقَ يَنهَشُ ثَمَراتِ الإلهام. *** اليوم هو الخامس عشر من آذار.. إنها ذكرى ميلادي النَّاسُ في قَريتي لا يَحتَفلونَ بأعيادِ ميلادِهم وأنا كذلك لا أحتفلُ بيَومِ ميلادي لكنَّني اعتَدتُ في مِثلِ ذلك اليوم أنْ أتيحَ لنيرانِ الذِّكرياتِ أن تَسريَ في هَشيمِ الجراح! في ذلك اليوم حاولتُ أن ألوذَ بقصيدةٍ تَنهالُ على الرُّوحِ بلسماً ولكنَّني اكتَشَفتُ أنَّ المحبرةَ قد كَفَرَتْ بخضابها وازدادت أقساطاً من شيخوختها حتى صار رحمُها أصغرَ مِنْ أنْ تكتَملَ فيه (قصيدةٌ واحدةٌ)! جَلَستُ في شُرفتي أعبَثُ بمسبحتي وأردِّدُ كلماتٍ قُلتُها ذات شتاء: ((سَيِّدي الشَّاعر.. حين كان الشتاء الماضي في عنفوانه.. جَلَستَ أنتَ على كُرسِيِّكَ المتَأرجح.. تُشعِلُ حواراً أبدياً.. بين أطراف أصابعكَ وحَبَّاتِ مَسبَحَتِكَ.. مُغمضَ العينين تُنشِدُ قائلاً: (ما أدفأ الوهم..) و على بُعدِ ألفِ جمجمة تَحتَفي بالشَّعرِ الأبيض.. كانت أبياتُ قصيدتِكَ شاحبةً.. تبدو مِثلَ سِربٍ من الأرامل.. تائهٍ في غَياهِبِ التَّرَهُّل.. حيث لا فحولةَ تُغوي قَواماً ممشوقاً..)). هكذا كنتُ في ذلك اليوم.. ولأنَّ قلبي مِثلَ قلب الأم.. إذ يزدادُ اخضراراً على رؤوسِ الأشواكِ! وفي لحظةٍ لاذت فيها الحسرةُ بأحضانِ اليَقينِ! أغمَضتُ عَينَيَّ.. فَرَأيتُكِ.. رأيتُكِ.. في بَهْوِ فُندُقٍ ما تَتَناولين طَعامَ الإفطارِ برفقَةِ شاعرٍ آخر فيما يَجلِسُ شاعرٌ مَغمورٌ في زاويةٍ قَصِيَّةٍ ليُراقِبَكُما عَبرَ دخانِ قَهوتِه السَّاخنَة ** ** - فهد أبو حميد