اعتذار الدكتور عايض القرني عما فعلته الصحوة بالمجتمع، وتضليلها للإنسان السعودي، يجب قبوله بلاشك، لأن العفو والتسامح من شيم العقلاء، ولأن فكرة (الاعتذار) في حد ذاتها إدانة لما حصل في تلك السنين الغابرة التي كان فيها (الفكر الصحوي) مسيطراً على أغلبية أفراد المجتمع وعلى منابر المساجد، والتي صورت من يختلف معها كمن يختلف مع الإسلام، وليس مع رأي فردي لواحد أو مجموعة، استغلوا الظروف في زمن كان الوعي ناهيك عن المنطق والعقلانية غائبا إلا من رحم ربك. وأنا ممن وقفت بكل ما أملك من قوة ضد هذا الغول الشيطاني المتوحش، وتلقيت من شتمهم وسبهم ومؤامراتهم الكثير والكثير جدا، حتى أنهم (وظفوا) قريبا لي (جاهلاً) ليتبرأ مني في الصحيفة التي أكتب فيها، وآخر اتهمني (بالماسونية)، وعندما سألته عن ماهية الماسونية ارتبك و(فق ثمه)؛ ورغم كل ذلك كنت منذ البداية على ثقة كاملة أن هذه الصحوة المقيتة والمتخلفة وغير المنطقية، والتي تراهن على لي أعناق المجتمع إلى الماضي، وتكره التطور والحضارة والحداثة كراهيتها للشيطان الرجيم، لا بد وأن تنتهي إلى هزيمة منكرة، لسبب بسيط مفاده أن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء، وأن الحكم على الشيء جزء من تصوره، فكيف يحكم الماضي المتمثل في مقولات أجداث المقابر على عالم اليوم بمقتنياته الحضارية ومعجزاته التقنية، التي جعلت الإنسان يتجول بمركباته بين الكواكب والنجوم ويعمل على أن يغزو المريخ، ويستوطنه؛ فهل يعقل - يا عباد الله - أن نهمش العقل ونردد دون تفكير (من تمنطق فقد تزندق) في حين أن علم الرياضيات التي لا يمكن الاستغناء عنه في أي صناعة حديثة يقوم ويتمحور ويتمركز على المنطق؟.. هذا مثال بسيط، وغيض من فيض على أن الصحوة المقيتة لا تدعو إلى العقلانية، والنقول تأتي في موازينهم قبل العقول، وهذه هي (الأساس) الذي جعل العرب، كل العرب، متأخرين ومتخلفين، فالعقل ومقاييسه إذا حيدته في البحوث الدنيوية، وليس الماورائية، فلن تصل إلا إلى التخلف الحضاري في كل المجالات، وهذه هي (النتيجة) النهائية التي أوصلنا إليها الصحويون. كما أن أغلب الصحويين هم طلاب سلطة ومال ونفوذ ووصاية على أفراد المجتمع، ولا يتورعون في أن يركبوا قال الله وقال رسوله لتحقيق ما يهدفون إليه، وهي السلطة. لذلك تجد أن نجومهم ودعاتهم يسكنون في مساكن فارهة باذخة، ويبالغون حد الإسراف في فرشها، والتمتع بكل مقتنيات الغرب (الكافر) الذي يشتمونه في خطاباتهم العلنية، فتتساءل: كيف يبيحون لأنفسهم ما يحرمونه أو يكرهونه للآخرين؟.. وأنا على يقين أنهم يغرسون في أذهان طلابهم ومريديهم النقل و(كراهية العقل)، والابتعاد عن التفكير، والطاعة العمياء لكبرائهم وأساطينهم وما يقولون، بل كانوا يقولون إن طالب العلم أمام شيخه كالميت بين يدي مُغسله، لأن التفكير والتمحيص وإعمال العقل سيجعلهم (يكتشفون) أن مشايخهم هم أول من يناقض ما يدعون إليه؛ خذ (الزهد) مثلا الذي هو من رقائق الصالحين، تجد أن بينهم وبين الزهد مثلما بين المشرق والمغرب، فالبيوت فارهة باذخة، والمركب من أغلى المراكب وأغلاها، ومن النوع التي لا يركبها إلا المليونيرات، ويُسافرون سياحياً إلى خارج المملكة ويتمتعون بالسفر ومقتنيات السياحة، بالشكل الذي لا ينافسهم فيها إلا كبار الأثرياء؛ ولأن (الجنس) أساس كل المُتع، شرعوا لأنفسهم زواج يدعي (زواج المسفار)، الذي لا أدري من هو أول من أباحه، وغني عن القول إن هذه الفتوى خلّفت في إحدى الدول الآسيوية مئات الأبناء الذين ولدوا من جراء هذه الزيجات، وهرب آباؤهم، وتركوهم يعانون من معضلة (اللامنتمي). ومع كل ذلك، ومن باب {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} يجب أن نقبل اعتذارهم، ونغفر لهم، لأنهم في نهاية المطاف منا ونحن منهم، وجل من لا يُخطئ. إلى اللقاء