هذه هي الدنيا ما بين مولود آتٍ وما بين نفس قد أتى أجلها، وما بين فرح وما بين حزن، ها قد مرَّ شهر على رحيلك يا أبي. شهر مرَّ محملاً بالبكاء والأنين والحنين إليك بعدما توسد جسدك الطاهر التراب. لقد رحلت وتركت لنا شوقاً وحنيناً لن يمحوه الزمن، لقد كنا على أمل أن تنهض من وعكتك الصحية وتنهض من سرير المستشفى، فقد كنت أزورك وكلي أمل أن تخفف كلماتك عني ألمي كما فعلت في شهر رمضان عندما مرضت وأدخلت المستشفى فكلماتك لم أنساها وما زالت تقرع أذناي عندما قلت لي (لا تبكي يا ابنتي لا تبكي فأنا بخير). فقد تمنيت أن تكرر لي هذه المرة الكلمات نفسها ولكن سرعان ما تبدد الأمل، وأيقنت بأن هذه الغفوة هي الأخيرة، وما زال منظرك وأنت على السرير لا يذهب من مخيلتي، وخبر وفاتك يطرق أذناي وقد فارقت هذه الحياة. كم أشعلت صورك وأغراضك الشخصية لهيب أشواقي وضحكتك التي لا تفارقني. والله يا أبي ما انفردت لوحدي إلا وتمثلت كالطفلة ببكائي عليك، وما وضعت رأسي على وسادتي إلا ويمر شريط ذكرياتك أمامي، فلا أملك سوى ذرف دموعي وقد تقطع صوتي على رحيلك يا أغلى الناس عندي. منذ ظهوري إلى الدنيا كنت أنت العطاء والأمان، منحتنا كل شيء ولم تأخذ منا أي شيء، كنت كل شيء لأجلنا، علمتنا وربيتنا أحسن تربية. على مدى 80 عامًا عملت لأجل راحتنا، أعطيتنا الأمان وزرعت فينا أنا وإخوتي مكارم الأخلاق، ولين الطباع، وسماحة النفس، زرعت فينا صدق التواضع وحب المساكين. سيفيقدك وسيفقدك جلساؤك في الحرم النبوي طيلة 60 عامًا. فقدتك يا أبي ويغلبني البكاء كلما مر طيفك أمامي، رحلت وتركتني ولم أشبع من وجهك الباسم. رحلت وأنا أتجرع ألمًا.. رحلت قبل أن تودع أبنائي الأطفال الذين لم أجد جواباً لسؤالهم عنك.. فقدتك يا مصدر سعادتي والحضن الدافئ لي، فقدت صوتك الشجي الذي يعطيني القوة والمسؤولية، فقدت وجهك الباسم، افتقدت نظراتك الحادة التي كانت تؤدبني وأنا صغيرة ولا زالت في مخيلتي وقد كنت تحدثني عنها عندما كبرت، فقد قلت لي يا ابنتي (بردي قلبك وحمري عينك)، افتقدت حِكَمك التي أسمعها منك.. ولكن أين أنت الآن! لقد رحلت يا والدي إلى المكان الأطهر والأجمل وتركت وراءك أنفسًا أنهكها الشوق والحنين لرؤيتك.. لقد كنت لي ولإخوتي مصدر فخرنا وعزنا.. لقد كنت كالقمر الذي ينير دروبنا، لقد كنت مصدر جمعتنا معك، كنت أنت البركة بيننا وتذكرنا كم نحن إخوة وأننا لا نملك إلا بعض.. لقد تركت يا أبي خلفك رجالاً هم إخوتي وهم سندي وعضدي هم اتكائي وضلعي الثابت في هذه الحياة...... استودعتك يا الله أبي، اللهم أنزله منازل الشهداء واجعل مسكنه الفردوس الأعلى. ** **