المملكة العربية السعودية في 2018 غير ومختلفة تماما كهوية اقتصادية أو اجتماعية، في ظل حالة التجدد التي لحقت بها.. اليوم لم تعد المملكة هي تلك الدولة النفطية المجردة من أي ملامح أخرى.. اليوم الاقتصاد السعودي لم يعد اقتصادا واحدا يسير في مضمار الوقود الأحفوري بمخاطر نضوبه.. اليوم المملكة أصبحت بمثابة دولة عصرية تمتلك آفاقا اقتصادية متعددة سواء كدولة صناعية أو تجارية _أو خدمية_ أو سياحية.. إنها ثلاث هويات جديدة بعد سنوات طويلة من هوية الوقود الأحفوري. اليوم المملكة هي دولة اللا فساد.. دولة العدالة الاقتصادية.. دولة الانفتاح على الآخر استثمارا وتجارة.. في هذا التقرير نتجه إلى تفحص التغييرات الجوهرية التي سرت في هيكلية الاقتصاد السعودي.. والتي أدت إلى تغييرات جوهرية في أدائه الاقتصادي تبلورت جلها في تحسن كبير في دخل المواطن السعودي. ملامح نموذج النمو الاقتصادي السعودي الحديث في 2018.. إن السعي لتوصيف نموذج النمو الاقتصادي السعودي تعتبر مهمة صعبة، فالنموذج الاقتصادي السعودي قد تبلور من رحم رؤية 2030، وسار في طريق استغلال الفرص ونقاط القوة التي يكتسبها الاقتصاد الوطني من واقع أي فرص أو مستجدات.. اليوم باتت المملكة تمتلك قوى جديدة للنمو الاقتصادي غير معهودة، سواء التي ظهرت مع مشروع نيوم أو تلك التي ظهرت من نمو الصناعات الدفاعية والعسكرية والتي تتطلع الآمال من خلالها إلى دور تصديري رائد للدول التي لا تمتلك مقدرة على تصنيع السلاح سواء بالمنطقة العربية أو القارة الأفريقية. اقتصاد السوق.. والانفتاح على العالم الخارجي.. تأخذ المملكة بقواعد السوق الحر في الواقع العملي.. فالإنتاج والأسعار والعرض والطلب جميعها تحكمها قواعد السوق بلا تدخل من الدولة.. فقوى العرض والطلب هي التي تحدد سعر أي سلعة أو خدمة.. بل أن الدولة تتبنى نوعاً من الانفتاح على العالم الخارجي في صادراتها ووارداتها وحتى قطاع الاستثمار يسير حسب رؤية منفتحة، سواء كتدفقات للخارج أو الداخل. موازنة تاريخية للإنفاق الحكومي.. أطلق خادم الحرمين الشريفين موازنة تاريخية للعام الجديد بإنفاق حكومي بقيمة 978 مليار ريال، وهو القيمة المقدرة الأعلى في تاريخ المملكة، معلنا بداية عهد جديد للدولة السعودية الحديثة المستقلة عن اضطرابات الأسعار العالمية للنفط.. بإيرادات حكومية ضريبية لأول مرة تقدر بنحو 97 مليار ريال كإيرادات ضرائب، وهي إيرادات تستقيها الدولة من المصادر التقليدية المتعارف عليها كحق الدولة على المواطن أو القطاع الخاص أو أي رسوم غيرها. لأول مرة تظهر بالموازنة السعودية بالإيرادات الأخرى متضمنة الإيرادات النفطية، وتظهر الإيرادات التقليدية المضمونة والمتوقع تحصيلها حسب متغيرات وعناصر محلية وداخلية. ورغم أن حجم الإيرادات المتوقعة للعام الجديد (2018) لم يتجاوز 784 مليار ريال، وهو رقم لا يوازي أرقام الميزانية الفعلية في 2012 والتي بلغت 1240 مليار ريال، إلا أن حدوث مثل هذه الأرقام والاستدلال بها لا يمثل استقرارا حقيقيا أو مستداما للمملكة، لأنها كانت تعتمد على مورد خارجي، ولا يرتبط بالواقع السعودي، وهو الأسعار العالمية للنفط، ذلك المورد الذي يجعل الدولة في حالة اللا استقرار دائم نتيجة عنصر حساس للغاية لعشرات بل مئات المتغيرات العالمية. ورغم الواقع الذي تجاهد فيه لتدبير موارد حكومية بعيدا عن العنصر التقليدي، فإنها خصصت 192 مليار ريال للإنفاق على التعليم من موازنة 2018، بنسبة مساهمة 24 % من إجمالي إيراداتها المتوقعة، ونحو 147 مليار ريال للإنفاق على الصحة، إنها دولة المواطن حقا لكي تنفق حوالي 339 مليار ريال للإنفاق على المواطن مباشرة (صحة وتعليم). تخصيص 30 مليار ريال لحساب المواطن.. أحد أهم البنود الجديدة في الموازنات السعودية الآن هو حساب المواطن والذي تم تخصيص 30 مليار ريال للصب في مصلحة المواطنين محدودي الدخل مباشرة.. بعيدا عن الطرق غير المباشرة التي كان يتوزع فيها الدعم على فئات وشرائح أخرى ربما تكون غير سعودية أصلا.. الآن بحساب المواطن تكون الحكومة أطلقت برنامجا دقيقا لإيصال الدعم إلى مستحقيه بعيدا عن غير المستحقين سواء كغير سعوديين أو أغنياء وغيرهم. الإنفاق على التعليم والتنمية البشرية.. تتبنى الحكومة السعودية منهجا عمليا متحفظا في إنفاق الإيرادات الحكومية المتاحة في ضوء الارتفاعات المتكررة لأسعار النفط في الفترات الماضية، فهذه الارتفاعات يفترض أنها عَودت الاقتصاد الوطني على أحجام ضخمة للإنفاق، وبالتالي أوجدت هياكل إنفاقية متسعة، وتوجد مخاوف كبيرة نتيجة انتكاسة هذه الهياكل إن انخفضت أسعار النفط العالمية في أي وقت مستقبليا.. لذلك، فإن الإدارة الحكومية بالمملكة تركز على إيجاد مسارات للنمو الاقتصادي المستدام، القادر على تعويض النقص في الإيرادات الحكومية في أي وقت مستقبليا.. لذلك، فإن أعلى نسبة إنفاق حكومي جاءت على ممر الثلاثين عاما الماضية خصصت لتنمية الموارد البشرية، حيث ارتفع حجم مخصصات الإنفاق على التعليم من 26.2 مليار ريال في عام 1981م إلى حوالي 192 مليار ريال في عام 2018، أي أنها ارتفعت بما يعادل 638 %. لأول مرة.. مخصص كبير للإنفاق الاستثماري رغم أن موازنة عام 2018 احتوت على نمو على المستوى المطلق للإنفاق الحكومي بنسبة 5.6 % عن مستويات إنفاق العام الماضي، ورغم أنها تضمنت إنفاقا تشغيليا بلغ حوالي 773 مليار ريال، وهي أيضا تمثل ارتفاعا عن مستوياتها للعام الماضي بنسبة 3.6 % ، فضلا عن أنها تضمنت إنفاقا رأسماليا بقيمة 205 مليار ريال بزيادة قدرها 13.6 % عن عام 2017، رغم كل ذلك، فقد تضمنت موازنة العام الجديد بندا استثنائيا وغير معتادا لأول مرة وهو إنفاق استثماري بقيمة 133 مليار ريال، يتم إنفاقه من خلال صندوق الاستثمارات العامة والصناديق التنموية.. والبعض يتساءل لماذا إنفاق استثماري هذا العام تحديدا ؟ وما هي فائدته ؟ من يستعرض بيان الموازنة جيدا سيجد أمورا غاية في الدقة والترتيب، بل غاية في الترابط، فآفاق الاقتصاد المحلي تقوم على تحديد معدل نمو للاقتصاد الوطني في عام 2018 بنسبة 2.7 %، وهذه النسبة تقوم على استهداف معدل نمو للناتج المحلي غير النفطي الحقيقي بنسبة 3.7 %، إلا أن هذه الأخيرة لها مدخلات وعناصر لابد من توافرها، وهذا يتطلب إنفاقا استثماريا فريدا لتحريك وتنشيط الناتج غير النفطي. السياسة الجديدة التي تبنتها الموازنة ليس وضع نتائج ومخرجات عشوائيا، ولكن رصدت لها المخصصات الكفيلة بتحقيقها. بل يتضح أن الاستثمار الخاص الحقيقي أحرز معدل نمو سالب في عام 2017 بنسبة (-0.6 %)، وهذا النمو السلبي، لذلك فأحد أهداف الموازنة الجديدة رفع معدل نمو هذا الاستثمار الخاص إلى 3.3 %، وهو أحد المدخلات الرئيسية لرفع معدل نمو الناتج غير النفطي، والأخير مدخل لرفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي. وينبغي أن نعلم أن الاستهلاك الخاص الحقيقي نفسه لم يسجل نموا قويا يشجع على تحقيق معدلات النمو المستهدف للناتج المحلي الإجمالي، حيث إنها سجلت معدل 1.2 % خلال هذا العام (2017)، ولا يتوقع تسجل سوى 0.4 % خلال العام المقبل (2018)، لذلك، لا يمكن الاعتماد على الاستهلاك الخاص في قيادة عجلة دوران ونمو الناتج غير النفطي. كل ذلك، عزى بالحكومة تنشيط الإنفاق الاستثماري بتخصيص رقم كبير وغير معهود وهو 133 مليار ريال لعام واحد (2018)، بحيث يمكن منظومة القطاع الخاص على تولي زمام مبادرة النمو للقطاع غير النفطي. التنويع الاقتصادي القائم على البتروكيماويات.. رغم أن النفط هو المصدر الرئيسي للقلعة الصناعية السعودية.. فرغم ما يقال عن دولة المصدر الوحيد، إلا أن المملكة أحرزت نجاحا غير مسبوق في صناعة التكرير، والتي بنيت عليها أكبر قلعة تصنيع للبتروكيماويات بقيادة سابك. وفي اعتقادي أن صناعة البتروكيماويات لم تنل ما تستحقه من تقدير بالمملكة حتى الآن، فهي تصنيع حقيقي، يتطور من عام لآخر، وهذا التصنيع يمكن أن يكون هو المسار الناجح للتوجه التصنيع السعودي، فهو أساس التميز النسبي والتنافسي.. ولا يعيب الاقتصاد أن يكون اقتصادا نفطيا. تطورات نيوم المستقبل الجديد للمملكة - 500 مليار دولار نيوم هو المشروع السعودي الأول لمدينة جديدة مخطط بناؤها كمدينة عابرة للحدود، أطلقه الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد السعودي ويقع المشروع في أقصى شمال غرب السعودية، ويشتمل على أراضٍ داخل الحدود المصرية والأردنية، حيث سيوفر العديد من فرص التطوير بمساحة إجمالية تصل إلى 26,500 كم2، ويمتد 460 كم على ساحل البحر الأحمر. ويهدف المشروع ضمن إطار التطلعات الطموحة لرؤية 2030 بتحويل المملكة إلى نموذجٍ عالمي رائد في مختلف جوانب الحياة، من خلال التركيز على استجلاب سلاسل القيمة في الصناعات والتقنية داخل المشروع وسيتم الانتهاء من المرحلة الأولى ل»نيوم» بحلول عام 2025م . تم دعم المشروع من قبل صندوق الاستثمارات العامة السعودي بقيمة 500 مليار دولار، والمستثمرين المحليين والعالميين. وتقوم الفكرة الاستراتيجية لنيوم على أن هؤلاء الشركات والأفراد السعوديين (كمستثمر وطني) هم الذين سيبدأون في بداية سلسلة النجاح والتحريك والحث الاستثماري لمشروع نيوم المستقبل. فصندوق الاستثمارات العامة من المتوقع أن يهيئ البنية التحتية الرئيسية للمشروع، ثم يبدأ في طرح أراضي أو قطع استثمارية ذات أولوية للمشروع حسب مخططات محسوبة على شركات وأفراد سعوديين. ونعتقد أن هذا الطرح سينال القبول وستتنافس عليه الشركات والأفراد المحليون نظرا لجاذبية المشروع وتحوله من مشروع محلي لمشروع عابر للحدود. هذه الخطوة الأولى أشبه بطرح المساهمات أو المخططات العقارية. المملكة - ثروات ووفرات مستمرة من المعروف منذ القرن الماضي أن المملكة دولة نفطية كبرى باستحواذها على 20 % من الاحتياطيات النفطية المؤكدة بالعالم.. وحتى رغم تراجع الأسعار العالمية للنفط نسبيا، إلا أن النفط لا يزال الثروة الأهم على المستوى العالمي.. أيضا تمتلك المملكة خامس أكبر احتياطيات مؤكدة من الغاز الطبيعي، وتستخدم هذا الغاز في التصنيع حتى أنها تنال مرحلة متقدمة في تصنيع البتروكيماويات.. إلا أن تفوق المملكة نفطية وغازيا عزى بالكثيرين للاعتقاد بأنها دولة نفطية مجردة.. إلا أن الحقيقة أن المملكة هي أمة غنية بالثروات الطبيعية، حتى أنها تصنف كثالث أكبر مخزون ثروات طبيعية بالعالم، وترصد لها بعض التقارير (بحسب تصنيف منظمة وورلد نووينغ)، ثروة من الموارد الطبيعية مقدرة بنحو 34 تريليون دولار، خلف كل من روسيا التي قدرت ثروتها الطبيعية بنحو 75 تريليون دولار، والولايات المتحدة ثانياً نحو 45 تريليون دولار، مع الإشارة إلى فارق المساحة بين المملكة وسابقتيها. وقد قدر هذا التصنيف الموارد الطبيعية بما يوازي (10) سلع رئيسية: النفط والغاز والفحم والغابات والأخشاب والذهب والفضة والنحاس واليورانيوم وخام الحديد والفوسفات. ويكفي أن نعلم أن الجهود التعدينية والاستكشافية قد رصدت 3576 موقعا للمعادن الثمينة، حيث تم رصد 980 موقعا للذهب و610 مواقع للفضة و856 للنحاس و477 موقعا للزنك و284 موقعا للرصاص و76 للنيكل و117 موقعا للكروم و176 موقعا للعناصر النادرة الأخرى. ثروة المملكة من الذهب.. قدرت وزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية احتياطي السعودية من الذهب بأكثر من 19 مليون أوقية وذلك من خلال 980 موقعا للذهب.. بقيمة سوقية حالية تتجاوز نحو 88 مليار ريال (23 مليار دولار).. إلا أن كل الدلائل تشير إلى أن هذا الاحتياطي ما يضاف إليه بالاستكشافات الجديدة أكبر مما يستقطع منه بالاستخراج والإنتاج. ثروة المملكة من الفوسفات.. تشير تقديرات وزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية إلى أن المملكة تمتلك حوالي 2 مليار طن من خام فوسفات، ويصل حجم الاحتياطيات المؤكدة إلى 313 مليون طن، بقيمة سوقية تقريبية 423 مليار ريال أو ما يعادل 113 مليار دولار. وتحتل المملكة حاليا المرتبة الثالثة عالميا في إنتاج الفوسفات والأسمدة. هذا بجانب 380 مليون طن من خام الحديد، وحوالي 300 مليون طن من خام الألمنيوم ومليون طن من معدني الزنك والنحاس.. وإذا قدرنا القيمة السوقية لاحتياطيات هذه الخامات، لناهزت التريليونات من الدولارات.. ومن البشرى أن القيمة السوقية لهذه الخامات ليست ثابتة ككميات أو حتى كقيم.. فالكميات تزداد رغم تزايد حجم المستقطع منها بالاستخراج.. وذلك نتيجة تقدم التقنيات الاستكشافية.. أما القيم فإنها عرضة للارتفاع نتيجة الصعود العالمي المتتالي لأسعار الخامات والتي توصف غالبيتها بالنادرة والثمينة. ومما يدعو للتفاؤل بأن المملكة أصبحت منتجة لهذه الخامات أكثر منها مستخرجة، فبيع الخام يعتبر هدرا للثروة النادرة، لذلك اتجهت جهود المملكة للتصنيع والإنتاج وتصدير المنتجات المصنعة للفوسفات والألمونيوم والنحاس وغيرها.. وهو ما يعزز من استفادة المملكة من ثرواتها الطبيعية. وتشير كثير من التوقعات إلى استكشافات جديدة لخامات ثمينة قريبا، وذلك حسب توقعات كثير من المراقبين. في النهاية فإن كل الدلائل تؤكد على أن المملكة في 2018 هي دولة مختلفة تماما عنها منذ 10 أو 20 أو 30 سنة.. فهوية الاقتصاد والمجتمع السعوي أصبحت مختلفة تماما، حتى باتت مثار الاهتمام العالمي سياحة وتجارة واستثمارا.. ونتوقع أن يتحول الاقتصاد السعودي إلى قطب اقتصادي شمولي النمو بعد اكتمال بنية المشاريع الجديدة التي تم إطلاقها في ضوء رؤية المملكة 2030.