الفصل الثالث: الدراسات الصوتية في اللغة العربية بين الوصف والتفسير يمهد أستاذنا في بداية هذا الفصل بالإشارة إلى توقف الجهود العربية الحديثة عند الوصف مع أن الدراسات اللغوية الغربية تجاوزت مرحلة الوصف إلى التفسير كما في المدرسة التوليدية التحويلية، ولذا نقف في هذا الفصل على جملة من الظواهر الصوتية لا يجوز الاكتفاء بوصفها. 1 - واو المد وياء المد (الضمة الطويلة والكسرة الطويلة): ينقل هنا قولين لإبراهيم أنيس ولكمال بشر رحمهما الله يذهبان فيهما إلى أن القدماء أخطؤوا في زعمهم وجود ضمة قبل الواو في مثل أقول، وكسرة قبل الياء في مثل كريم، وذهب بشر إلى أنهما حركتان طويلتان لفظًا ووظيفة، وأستاذنا لا يعاندهما في كونهما حركتين لفظًا بل في عدّهما كذلك وظيفة، ويقول «ولست أشك في أنّ القدماء كانوا على حقّ ... حين اعتبروهما ضمة+واو (ساكنة)، وكسرة+ياء (ساكنة) على التوالي»(1)؛ ولكن قول أنيس متجه في نظري لأن مفهوم الساكن عند القدماء يختلف عن مفهومه عند أستاذنا، فالقدماء يرون واو المد مسبوقة بضمة ويرون في الوقت نفسه أن واو المد ساكنة؛ لأنها في عرفهم حرف لا حركة، وليس هذا الحرف متلوًّا بحركة، وهم يحكمون على البنية الظاهرة، ففي مثل (يقول) يرون أنّ أصله قبل الإعلال بالنقل (يقْوُل) ثم نقلت الضمة إلى القاف فصارت الواو ساكنة ممدودة. وهم يرون الألف مسبوقة بفتحة وأنها ساكنة أيضًا مع أن الألف لا تسكن ولا تتبعها حركة كالواو أو الياء، وليست الألف من (قال) أو (باع) مسبوقة بفتحة عند أستاذنا لأنها محصلة اجتماع حركتين قصيرتين، ولذلك كتب في الحاشية4 أن الفتحة التي قبل الألف هي للألف الزائدة لأن الألف الزائدة في الأصل همزة ساكنة. ومفهوم السكون عند أستاذنا أنّ الواو تكون ساكنة بعد الواو كسكونها بعد الفتحة في (قَوْل) بخلاف مفهوم القدماء، فهم يجمعون بين كون الواو مدًّا وكونها ساكنة مسبوقة بحركة من جنسها، ومن أجل هذا أعرب الكوفيون الأسماء الستة من جهتين فالاسم (أبوك) مرفوع بالضمة على الباء وبالواو أيضًا. على أنّ ما يذهب إليه أستاذنا من اختلاف الوظيفة عن اللفظ صحيح، وأن الواو في (يقول) أصلها قبل المدّ (يقُوْل) فالواو ساكنة سكونها في (قَوْل)، ولذلك وفق في احتجاجه بالقيمة العروضية أو النبرية للمدود (ع ُ ُ = ع َ و = ع ُ د). وبهذه الفرضية التي وضعها أستاذنا استطاع تفسير الاختلاف بين ألفاظ بنيتها واحدة مثل اسمي المفعول من الصحيح والناقص كما في (مدعوم) و(مدعوّ)، فهو يرى أن البنية الباطنة للفظ (مدعوم) هو (مَدْعُوْم): م َ د ع ُ و م، ثم ماثلت الواو الضمة في البنية الظاهرة: م َ د ع ُ ُ م، أما (مدعوّ) فلم تتغير البنية الداخلية التي هي: م َ د ع ُ و و. ومعنى هذا أنّ الضمة المتلوة بواو ساكنة لا تصير واو مدّ أي ضمة طويلة إلا إن وليها صوت صحيح أو لم يلها شيء، أي كانت متطرفة، وينطبق هذا على بناء مفعول وفُعول وفَعيل، مثل: معدوم، علوم، عليم. ويفسر بذلك كون لام الفعل الناقص المنصوب (يدعوَ) أو المسند لألف الاثنين (يدعوان) غير مدّ، فالواو متلوة بفتحة قصيرة أو فتحة طويلة فلم تتغير؛ لأن التغير مرهون بتلوّ صوت صحيح أو تطرف. وبهذه الفرضية يفسر سبب اختلاف فاء الفعل من مضارع المثال عن ماضيه في (يوضحُ/ أوْضح) فهي مدّ في المضارع وساكنة في الماضي، فالواو في المضارع (يوضحُ) مسبوقة في الباطن بضمة متلوة بصحيح فماثلت الواو الضمة: ي ُ و ض ِ ح ُ ) ي ُ ُ ض ِ ح ُ وهذا يوهم أن البنية الباطنة كما ذكر أستاذنا، وليست كذلك في نظري، بل هي: (ي ُ ء َ و ض ِ ح ُ) أي بهمزة مفتوحة، ولكنها حذفت بفتحتها، فتوالت الضمة والواو الساكنة ثم تماثلتا، ولو انتبه أستاذنا إلى ذلك لعزز به فرضيته. أما في (أَوْضح) فلا تغير لأن الواو قبلها فتحة فلا تماثل هنا. وكذلك يفسر تغير الواو من (مِيزان) وثباتها في (وَزن)، فأصل (ميزان) مِوْزان ثم ماثلت الواو الكسرة (مِيْزان) ثم ماثلت الياء الكسرة ، فالمراحل التي مرت بها ثلاث لا مرحلتين كما عند القدماء: م ِ و ز َ َ ن ) م ِ ي ز َ َ ن) م ِ ِ ز َ َ ن وتنبه أستاذنا إلى أنّه قد يجادل أحد بالقول لم لا يكون المد (الحركة الطويلة) هي الأصل، وهذا ممكن ولكن لذلك عقبات منها أنه لا مسوغ لافتراض بنية عميقة ذات حركات طويلة لكلمات مثل: أوضح، وزن، يوحّد، يواعد، لأنه لا فرق بين الظاهر والباطن فيها. لا مسوغ لمجيء فاء الكلمة حركة طويلة لأنه لا يبدأ بحركة، لا قواعد تحويلية لتحويل الحركة الطويلة المفترضة في الباطن إلى (حركة+ سبه علة) في الظاهر، وإن كانت الكسرة الطويلة في (ميزان) هي الأصل فلابد أن يكون الفعل هو (ي زن)، وكذلك إن كانت واو المد في (موقن) هي الأصل فالفعل يجب أن يكون (أوقن)، وأزيد هنا أنه لا تفسير للمصدر يقين، وبين أنه لو أردنا تحويل أوقن إلى أيقن، ويزن إلى وزن لما وجدنا قاعدة صوتية فاعلة. ... ... ... (1) داود عبده، دراسات في علم أصوات العربية، 2: 65.