رأيت الأستاذ علامة الجزيرة العربية حمد الجاسر لأول مرة عام 1398ه في مكتبة جامعة الملك سعود في موقع الجامعة القديم بحي الملز حين كنت أكتب بحثاً علمياً عن «المعرب في القرآن الكريم» بإشراف الدكتور عبد الله ربيع أستاذنا في فقه اللغة في السنة الثالثة بكلية اللغة العربية وتعادل المستوى السادس الآن. كنت أحبذ المذاكرة أيام الامتحانات والتنقيب عن المراجع المطلوبة للبحوث في مكتبة جامعة الملك سعود، وفي القاعة الكبرى الفسيحة بالمكتبة رأيت الشيخ حمد يأخذ كتاباً ويعيد آخر إلى رف عالٍ، كانت غترته البيضاء تلتف على رأسه خلف أذنيه وكأنه يشكو شيئاً من صمم، أو ربما من باب عدم الاكتراث بأناقة اللباس، سلمت عليه سلام المحب المعجب فرد بكلمات لطيفة مقتضبة ثم قال: هل يمكنك يا بني أن تساعدني في الحصول على كتاب كذا (نسيت اسم الكتاب الذي طلبه) فذهبت فورًا وعلى عجل إلى مشرف القاعة، وقلت له: إن الشيخ حمد تعب في البحث عن الكتاب الفلاني؛ فهلا اختصرت عليه الوقت وأحضرته له؟ كان الشيخ عاد من سنوات قليلة من إقامته في بيروت على إثر اندلاع الحرب الأهلية فيها وفجيعته بفقد ابنه محمد الذي أصابته قذيفة في مطار بيروت وهو يستعد للعودة إلى المملكة. ويحسن بي ربط حلقات سيرته الذاتية؛ فبعد صدور نظام المؤسسات الصحافية عام 1383ه رأى أن مهمته في تأسيس مجلة اليمامة الشهرية التي أصدرها عام 1372ه (وتعد أول مطبوعة صحافية في نجد) قد انتهت بصدور ذلك النظام وأن الأولى به أن يفرغ للبحث والتأليف في القضايا التي تشغله ويعد نفسه بأنه سيفرغ لها، ومما كان يعنى به ويمني نفسه بالكتابة فيه قضايا تراث الجزيرة العربي الأدبي واللغوي وجغرافيتها وقبائلها وأنسابها ونحو ذلك، وهو ما تجلى في بحوثه النفيسة التي أصدرها في كتب ومعاجم من أجزاء، لكنه اختير ليرأس تحرير جريدة الرياض التي أصدرتها مؤسسة اليمامة للصحافة والنشر عام 1385ه، ثم أصدر عام 1386ه مجلة «العرب» الشهيرة التي خدمت تراث وأدب وتاريخ جزيرة العرب؛ وعلى الأخص البلاد السعودية. انتقل بعد ذلك إلى بيروت ونقل معه جزءًا كبيرًا من مكتبته، وأصبحت داره هناك مزارًا للأدباء والمثقفين السعوديين وغيرهم تنعقد فيها لقاءات وجلسات أشبه ما تكون بالندوات الأدبية والعلمية، وكنت أتمنى وما زلت على أدبائنا الذين كانوا يحضرون تلك الجلسات كتابة ذكرياتهم عنها وما كان يدور فيها من أحاديث ومن كان كثير التردد على دارة الجاسر في لبنان. وقامت الحرب الأهلية في لبنان 1395ه الموافق 1975م وأصابت مكتبة الجاسر قذيفة أحرقت نفائسها، ثم وقعت الفاجعة الكبرى في حياة الشيخ حمد بعد أن ضرب صاروخ الطائرة التي كانت تقل ابنه محمدًا في أثناء تهيؤ الطائرة للإقلاع إلى المملكة؛ فعاد حمد الجاسر بعد تلك الأحداث المؤلمة إلى الرياض مستقرًا فيها ومواصلاً مسيرته العلمية الثرية.. يتبع