تراثُه الثقافي رحمه اللَّه، والنثريُّ منه على وجه الخصوص، في: الاقتصاد، التنمية، السياسة، الإدارة، والاجتماع.. (في عين العاصفة)، (أسئلة التنمية الكبرى)، (الغزو الثقافي)، (حياة في الإدارة).. إلخ: رسمتْ لنا (الوطنية) في صورةٍ بهيجة، وبقلمٍ نبيل، وجسَّدت لنا صورَ: العزيمة والشغف والتحدي كأجمل ما تكون.. مقالاته، وكتاباته، في أوقات الأزمات، كانت كمَثَلِ بَوصَلَةٍ للرَّأي العام، أو كحكيم تستنطقه وقائع الأيام... أحداث 11 سبتمبر، وأزمة الخليج 1991م، وأحداث ما سُمِّيَ بالنكسة 1976م؛ أحداثٌ شاهدة على ذلك.. وكم تساءلتُ، وأنا أقرأ حكمتَه في تلك الأحداث والأزمات: لو كان رحمه اللَّه شاهدًا على أحداث (الخريف العربي) فما عساه أنْ يقول؟ قد نتفق ونختلف حولَ فكرةٍ أو قضيةٍ أو مسائلَ أو تقديرِ موقف، ولكننا لا نختلف على نزاهة (غازي القصيبي) رحمه اللَّه، ولا على كفاءته، وإنسانيته، ووطنيته. قرأتُ له وعنه رحمه اللَّه أكثر من: (خمسين) كتابًا وكتيبًا، ومؤلفاتُه وما كُتب عنه أكثر من ذلك، وعُدتُّ لبعض مؤلفاته مرَّات؛ استذكارًا لما فيها من المعارف، واستحضارًا لما فيها من التاريخ، وحفاوةً بما فيها من التجربة، أو تزجيةً للنفس بما فيها من الأدب، أو دفعًا لما قد يجده الشخص من السَّآمة أثناء البحوثِ الواجبة، وفروضِ المطالعة.. وكم كنتُ -كغيري - أبتهج بما يُطبعُ له بعد وفاته رحمه اللَّه، وأتلقَّف ما يُجمع له بعد رحيله من مقالاته المتفرقة أو كتاباته المنثورة... * * * وفي مساء يومٍ من أيام صيف عام 1437ه؛ كنت في مكتبة معهد الإدارة العامة في الرياض، أتصفَّحُ وبشكل رتيب، أعدادَ جريدة أم القرى، الصحيفة الرسمية، لأجل إكمال دراسةٍ متعلقة بالأنظمة... حتى وقفتُ على أعداد سنة 1373ه/1954م، وبين صمت الكتب، وسكون المكتبة، والعناوين القانونية الجامدة؛ إذا بي أُفاجأ، على إحدى صفحات هذه الجريدة، بهذا العنوان الجميل: (خطاب غازي عبدالرحمن القصيبي بين يدي جلالة الملك المعظم في البحرين).... فعجبتُ من دهشةِ اللقيا بلا ميعادِ! .. فإذا هو خطابٌ ألقاه رحمه اللَّه في البحرين أمام الملك سعود رحمه اللَّه، في الحفل الذي أقامه السُّعوديون المقيمون في البحرين ترحيبًا به، وبحضور الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة رحمه اللَّه. وأثناء قراءتيِ لهذا الخطاب، ومع كل سطرٍ منه؛ أجد نفسي شيئًا فشيئًا أخرج من سكون المكتبة، وصمت الكتب؛ ليرتسم في ذهني مَرْأى الحفل البهي، وصَخَب المحفل البهيج، وصوت الأستاذ الكبير (الصغير سنًّا حينها) يملأ المكانَ حماسةً وبهجة... *** وفي سبيل تقدير عمره رحمه اللَّه حينها: إذا كان الخَبَرُ منشورًا عقيب الحفل منتصف عام 1373ه تقريبًا، وكان تاريخُ ميلاده رحمه اللَّه في أول عام 1359ه؛ فإنَّ تقدير عمره حين إلقائه لهذه الكلمة قد يكون في (14) من عمره رحمه اللَّه. وسواء كتب هذه الكلمةَ بنفسه، وهو رحمه اللَّه جديرٌ بها في تلك السن، وبأعلى منها، أو أُعين على كتابتِها، فهي على التأكيد، وفي كل الأحوال، كلمةٌ منسوبةٌ إليه، متطبَّعةٌ بطابَعِه، تحمل في كلماتها: «جيناته» الفكرية.. وتحمل بين أحرُفِها أنفاسَه الأدبية، وتطوي بين عباراتها: عاطفته الصَّادقةَ المعهودةَ عنه، والمعاني التي طالما صرَّفها شعرًا ونثرًا، وهي ذات المعاني التي كانت تظلل كثيرًا من كلماته وقصائده، وكأني أسمعها بصوته وأدائه، ويلقيها بإحساسه؛ منسجمةً مع كثيرٍ من قصائدِه وكتاباته ومواقفه.. وقد نُشرتْ هذه الكلمة في جريدة أم القرى في عددها الصَّادر برقم (1513) وتاريخ 27-8-1373ه الموافق 30-4-1954م، ولا أعلم هل نُشرتْ أو أُعيد نَشرها في بعض الكتب التي تحدَّثتْ عنه رحمه اللَّه أم لا، ولم أقف على ذلك فيما بين يديَّ منها. ورغبةً في تجديد ذكراه وحضورِه الجميل؛ فهذا بين يديكم: النصُّ المنشور في جريدة أم القرى بعنوانه وحروفه.. *** ((خطاب غازي عبدالرحمن القصيبي بين يدي جلالة الملك المعظم في البحرين. فيما يلي الخطاب الذي تشرَّف الشاب غازي عبدالرحمن القصيبي بإلقائه بين يدي جلالة الملك المعظم في الحفلة التي أقامها لجلالته السُّعوديون المقيمون في البحرين. مولاي صاحب الجلالة، سيدي صاحب العظمة، أصحاب السُّمو الأمراء، سادتي الكرام: أصبحت البحرين على صُبْحِ ندى مشرق، ليومٍ أغر بهيج، يوم شرفها فيه عاهل المملكة العربية السُّعودية، وحامي حماها، ففتحتْ عينيها سعيدةً تُجيل الطَّرف في جنباتها لترى عجبًا.. لترى أخوين كريمين يتعانقان، وفوق رأسيهما ترفرفُ أحلام شعبين أبيَّين، ... يلوح الإخاء بأبهى صورِه، وبأجلى مظاهره. رأت البحرينُ هذا؛ فكأنها بجبالها وهضباتها تعبر البحار، وتعدُّ المسافات لتعانق معًا؛ آكام المملكة العربية السُّعودية، ورمالها الذهبية. رأت البحرين هذا فعادتْ وقد انتشت طربًا، واهتزتْ أنسًا، ذلك أنَّ سماءَها الصَّافية، شهدتْ أجلَّ لقاءٍ بين هذين الأخوين العظيمين، ورأتْ أسرتين تتصافحان.. أسرتين من أكرم الأسر التي سطَّر التاريخ أمجادها بحروفٍ من نور في صفحاته الخالدة، ألا وهما آل سعود وآل خليفة. آل السُّعود تلكم الأسرة العظيمة التي أعادت للمملكة العربية السُّعودية عصورها الزاهية، وعهودها الباسمة. وآل خليفة هذه العائلة الكريمة التي حكمتْ البحرين فجعلتها تسعد بعصور متوالية من الأمن والسَّعادة والرخاء. مولاي صاحب الجلالة، سيدي صاحب العظمة، سادتي الأمراء، أيها السَّادة: إننا لنحمد اللَّه إذْ هيأ لنا في ظروفنا العصيبة، وآونتِنا الحرجةِ هذه، قادةً محنكين، يسيرون بنا إلى هدفنا المرجو، وغايتنا المنشودة، فقد لبث الشرق بأجمعه سنين طوالاً يغط في سباتٍ من الجهل والتأخُّر، حتى سرتْ دماءُ الحركة في عروقه، وانفجرت براكين التقدُّم في أركانه، ففتح عينيه ليسير مجاهدَ العالم بأجمعه، متلمسًا طريقه بين الظلمات الدامسة، متطلعًا، يبتغي هاديًا معينًا يسير به، ويقوده إلى شاطئ النهضة والسَّلام، وها هي ذي الجزيرة العربية فتحتْ عينَها، لتجد والدكم المغفور له يأخذ بيدها ويُحررها، ويملأ صحراءها مجدًا وكرامة، وها هي عادتْ تفتحُ العينَ متطلعةً إليكم في عهدِكم السَّعيد، راجيةً نهضةً أوسع، وتقدُّمًا أعظم، متأكِّدةً أنكم خيرُ مَنْ يعتلي عرشَها، وخيرُ مَنْ يحفظ عزتها، وخير مَنْ يبلغها آمالها. وها هي ذي البحرين أيضًا تنظر إلى عاهلها نظرة يشع منها الأمل والرجاء، متيقنة من حسن قيادته، وجميل نصحه وهديه، حين تعصف بها العواصف والأنواء. وستسير الجزيرة العربية والبحرين بإذن اللَّه، بل ستسير بلاد الشرق جمعاء في طريقها إلى الأمام، ما دام سادتها يُؤْثِرون مصلحتها العامة على مصالحهم الشخصية، وما داموا يُضحَّون بكل مُرتخَصٍ وغالٍ في سبيل نهضتها.. ستسير قدمًا، وسيرعاها اللَّه بفضلِه وعنايته، لترجع عهودًا مضت، كانت فيها سيدةً لا مسودة، حاكمةً لا محكومة.. عهودًا كانت فخر العالم، ومنارَه الهادي. مولاي صاحب الجلالة.. ها أنا ذا أقلبُ الطرف في أرجاء هذا الحفل الكريم فأرى وجوهًا مشرقة، يطفح منها ألق السَّعادة والسُّرور، وأرى أسارير مستبشرةً راضية، وأرى قلوبًا خافقةً أنسًا وبهجة، وأرى وفدًا من شعب كريم، جاء يُحيي عاهله العظيم الذي أخذ على عاتقه النهوض به.. بل جاء يُحيي الإباء والشهامة ممثلةً فيه، يُحيي فيها أمجادًا لن تُمْحَى، ومآثر لن تندثر، مقدمًا ولاءَه وإخلاصَه لحامي مشاعر الإسلام المقدَّسة مكة والمدينة، مكة المشرفة حيث بزغتْ شمسُ محمد صلى الله عليه وسلم ، وحيث سار مجاهدًا مناضلاً طغيان الكفر، مخرجًا العالم من ظلماته إلى أنوارٍ زاهرةٍ مشرقة.. مكة التي تحوي الحرم المطهَّر، حيث وقف الهادي يقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا}، وحيث رفرفتْ رايات الإسلام لأول مرةٍ عليها.. والمدينة حيث استراح جثمانه العطري من جهاد سنين طوال. حياكم اللَّه يا مولاي، وحيا فيكم مجدَ الإسلام، وعظمةَ العروبة.. وحيا فيكم الإباء والشمم، والعزم الصَّادق المصمم، ذلك العزم الذي دفع والدكم العظيم أسكنه اللَّه جناته إلى تحطيم دول الجور والتعسُّف، وأنشأ مملكةً إسلامية، شعارها ودستورها القرآن. حيا اللَّهُ فيكم آمالَ شعب، وأحلامَ أمة، وحفظ اللَّه البحرين والمملكة العربية السُّعودية، تحت لواء عاهليهما العظيمين، والسَّلام عليكم)). انتهى بنصِّه من جريدة أم القرى.. *** وبعد (25) عامًا تقريبًا من إلقاء هذه الكلمة؛ نجدْه - رحمه اللَّه - يُخاطِبُ هذه الأمةَ الخالدةَ نفسَها، بالجذوة نفسِها وبالعاطفةِ ذاتها.. وأمثالُ هذه الكلمات في تراثه كثير؛ فيقول: ((تموتينَ؟ كيفَ؟ ومنْكِ محمَّدْ. وفيكِ الكتابُ الذي نوَّرَ الكوْنَ.. بالحقِّ حتَّى تورَّدْ. وطارقُ منْكِ.. ومنْكِ المثنَّى.. وأنْتِ المهنَّدْ. تموتينَ؟ كيفَ؟! وأنْتِ منَ الدَّهرِ أخْلَدْ! - الرياض 1399ه - 1979م))... ** ** - عبدالعزيز بن عبداللَّه السليّم