يتعب الإنسان في تحصيل ما يُحقِّق به إنجازًا يُغذّيه بالاستقلالية، والأمان، والاغتباط بينه ونفسه على اختلاف دوراتِ الحَدَثين، وفي ذلك يطمحُ إلى أن يرتبطَ هذا بالصورة الذهنية لشخصٍ ما، يكونُ الطَّيف الوحيد المرافق له؛ الذي يُفزّعه نحو إنجازٍ ما حين تخبو وَقْدتُه، ويرتق انكساراتِه بما يجعله يَنشغل في تأمُّل عملية التفزيع، والرّتق، والمسانَدة؛ بوصفها عمليَّاتِ إبداعٍ في الانتِشال وجَبْر المسيرة، دون أنْ يتورّط في حَبْسِ المنكَسِر في شَرَكِ أنّه صاحبُ فضلٍ عليه في كذا، وكذا؛ لأنه أمام الله يَستحيي مِن المِنّةِ بمعروفٍ هداهُ الكريمُ المَنّانُ إليه بطيب نفس! عملياتُ المُساندة تلك؛ لم تكن تنحبسُ في لُغته الخاصة، ولا في مجال اهتمامه الخاص، ولا في خطوات منهجه الخاص؛ وإنما كانت تنفتحُ بكلّ لغةٍ لدى تلمِيذِه؛ الذي يَصحبُه نحو آفاقٍ مدهشةٍ؛ وتنفتحُ بكلّ اهتمامٍ لدى تلميذه -أيضًا- نحو اهتماماتٍ كان يهربُ منها، أو لا يعرفها؛ وتنفتح بكلّ منهجٍ، أو نظريةٍ، أو خطوةٍ إجرائيةٍ نحو تأصيلٍ لتفاصيل إجرائيّةٍ فيها وتأثيثٍ عميقٍ، تَحكُمه رقابة الباحث الدائمة لتفرُّعات أفكاره المكتوبة، وتحليلاته المُقيَّدة؛ ليحيا في داخله صاحبٌ آخر، يُفكِّر في تفكير ذاتِه، ويُناقِش، ويُعارِض، ويُشجِّع، ويعتب! هذه رؤيتي لشيخي فضيلة الأستاذ الدكتور أبي عليٍّ؛ محمّدٍ بن عليٍّ بن محمّدٍ الصامل - حفظه الله، وسلّمه، وأدامه- من خلال صُحبة خمس عشرة سنةً علميّةً في جامعة الإمام محمّدٍ بن سعودٍ الإسلامية بالرياض العامرة؛ كما يحب أن يَصفها دائمًا؛ ابتهاجًا بها، ودعاءً بأن يجعلها الله - وسائر مُدن وطننا- بلدًا آمنًا ناميًا مِعطاء! كنتُ في بداياتي مُولَعَةً بالفكر الفلسفي اليوناني - بخاصة لدى أرسطو؛ ذاك العالِم التشريحي الماهِر في عالم الكائنات الحيوانية؛ الذي ألّف أسطورة النقد اليوناني الخالدة (فنّ الشعر)؛ التي ما زالت تتسيّد كثيرًا من علوم الخِطاب الغربية، ونظريات تحليله ومناهجه- وهذا الولَع امتدّ بي إلى الكتابات الفلسفية، والأدبية، والنقدية، وعلى وجه الخصوص ما يتصل بالنظريات والمناهج الغربية؛ التي كانت تمنحني أفكارًا مدهشةً مباشِرة، وزوايا رؤيةٍ مدهشة مباشِرة، وطُرُق تحليلٍ مدهشةٍ مباشِرة؛ فظننتُ أنّها هي المَطلب والمُنتَهى؛ لأنها تمنحني جديدًا كلّ حين! كان قَدَرُ هذا الولَعَ أن يقعَ في اختبارٍ يتحوَّلُ بمشروعي من نشوة الإكبار لذلك العطاء الفِكري إلى نشوة الاستثمار بحذرٍ وترقُّب، وكان من تقدير اللطيف الخبير أن جعلني أوافِق نفسي في مقاعد الدراسة لدى شيخنا في مقرر (قاعة البحث) بمرحلة الماجستير وأنا فارغة الفؤاد، مُروَّعة العقل من فَقْدِ أبي المفاجئ - رحمه الله، وغفر له، وجمعني به في مستقر رحمته- أتحسَّسُ ما يُهجِّد فجيعتي؛ لأتمكّن من اجتياز المرحلة بوثيقةٍ يكتب الله لي بها عملاً شريفًا بسيطًا، أتلفَّعُ به من عثرات الحياة بعد فَقْد جُنَّتِي فيها! أكتبُ هذا؛ لأنّني صرتُ أؤمن بأنّ الزوايا الكاسِرة الحرِجة؛ التي تَحشرنا فيها الحياة... هي زوايا العطايا الخاصة للظفر بشيءٍ استثنائيّ! في ذلك الوضع، وقد كانت سلوتي اليومية بعَدِّ درَجات السلّم صعودًا ونزولاً... في تلك الزاوية اليُمنى من قاعة الدرس... في أوّل يوم دراسةٍ في شهر رجب المحرّم عام 1424ه... راعني أنّ خاطري يسلو، وتسري فيه جذوة اهتمام؛ إذ بدأت المحاضرة بتأسيس مصطلحاتٍ ومفاهيمها، وأهداف تنبع منها، وأهدافٍ يجب أن تنبع منّا تجاهها، وخطواتٍ يَلزمنا أن نعيها، ونُتقِنَها، ونتخيَّرها بمسؤولية، ونتقيَّد بها بحزم، وفوق هذا الغاية التي نقصدها من طلب العلم، واستصحاب وثيقة الشرف في هذا الميدان؛ وهي صيانة الأمانة العلمية في حقوق الآخرين، وأدب العرض والحِوار والتقويم مع أفكارهم أيضاً! وكان كلّ هذا موصولاً بنماذج تجعلُ حياتنا مجالاً للتفكير البحثي وتطبيقاته! لم يكن شيخنا يُريح علامة الاستفهام أبداً! ولم يكن يريح الدهشة المُبتَكرة! لم تكن المعلومة هي غاية السؤال! ولم يكن قِياس المخزون المعرفي هو المعيار في تقويمنا! وكان ما يصدمني، ويُربكني، ويُضيّع احتفاءاتي الصغيرة بالقبض على معلومةٍ شاردةٍ أو جديدةٍ عليّ... حين يُحقّق في ذلك؛ فيسأل عن طريقة الوصول إلى تلك المعلومة؟ ولماذا اخترتُ تلك الطريقة؟ وما زمنُ الإنجاز بتلك الطريقة؟ وما خطواتي الدقيقة في العمل بها؟ وما نتائج كلّ خطوة؟ وما المُكتسباتُ الأخرى في طريق الوصول إلى الهدف؟ وكان كلُّ سؤال يُشعرني بالاحتفاء بصنيعي، مع أنّني ذاتَ مرّةٍ لا أنساها... انتهيتُ إلى أنّ ما وصلتُ إليه من نتيجةٍ كان خاطئًا بامتياز، وبكيتُ لحظتها من الحرج من الفشل في الإصابة، وكذلك من فرحٍ كان يغمرني بقدرتي على تذكّر خطواتي كلّها مع أنّها لم تكن في مجال مراقبتي وتقييدي! علّمنا شيخي أنّ الوعي بكلّ خطوة هو المهم، وهو المُعين على عُمق الإنجاز البحثي، وهو طريق الصناعة النقدية الأصيلة. وكان هذا طريقًا لتحوُّلاتٍ في مشروعي بالدخول في مجالِ عنايةٍ آخر، وهو البلاغة بعمومها، وبلاغة القرآن الكريم على وجه الخصوص؛ فصار المخزون الغربي السابق؛ الذي شُغفتُ به يَنزل منزلة أداة التفكير، وليس مجرد محتوى معلوماتي يلتصق هنا وهناك بسُحنته. وحين منحني شيخي فرصة الاشتغال على الدراسات النقدية الأدبية الاستشراقية في مقرر (قاعة البحث) بمرحلة الماجستير؛ لاختبار رغبتي في التخصص في هذا المجال، من خلال اختبار السؤال الذي كان يشغلني حول موقعِ الخاتمة في دراسة (ديفيد صموئيل مرجليوث) الموسومة ب(أُصول الشعر العربي)، ومضمونها الحقيقي، ثم العودة إلى تحديد الإجراءات التحليلية لديه من خلال وقوفي على نصِّ الدراسة في لغتها الأصيلة مع مراقبة تلقّي بعضِ زملائه لدراسته في لغات تعليقاتهم الأصيلة، وكان يَبتكر امتدادات دهشتي كلّ حينٍ بالقراءة المتواترة، والأسئلة المدهشة المتواترة، وتوجيهي حين تظهر لغة الذات التأثّرية على لغة الباحِث الموضوعية؛ لأصحح مساري... حين منحني تلك التجربة؛ منحني - بعد الله تعالى- تخصّصي المستقبلي، الذي يصنع لي شغفًا وسلوة! وحين منحني تجربةً أخرى دون سابقتها من جهة الحجم والامتداد الزمني، كانت في مؤلَّفٍ فارسيٍّ في البلاغة، جعلني أقف على التفكير في تَراسلٍ جميلٍ جدًّا بين التفكير البلاغي العربي والتفكير البلاغي الفارسي، أحياه بدهشة الأسئلة ذات الآفاق الواسعة... منحني خطوةً ثانية جعلتني أدخل مجال البلاغة القرآنية من خلال الدراسات الاستشراقية في لغتها الأصيلة. ومع أنّه مجالٌ فيه صعوبة تحقيق دقة الفهم والترجمة، وعدالة التفسير والتأويل، وإنصاف التقويم بأدوات البحث العلمي المنضبط بسلامة الرؤية الشرعية قبل الرؤية البحثية؛ إلاّ أنّه كان يؤكّد لي أنّ ما علّمني إيّاهُ شيخي وأسّسه أداةٌ مُنتِجةٌ بشغفٍ وثقةٍ في أيّ مجال، وهو أداةٌ - بإذن الله- ستصنع هويّتي -بوصفي باحثةً من الباحثين المنضبطين بالإطار الأكاديمي- من خلال تدرُّجي في التواصل مع أُمّهات التراث العربي البلاغي والنقدي؛ حيث هويتي الأصيلة، ومعرفتي الأصيلة؛ لمحاولة الإسهام - مع زملائي وطالباتي- في تحقيق الرسالة؛ التي تتبنّاها جامعتي العريقة، وفي الإسهام في مشروع اكتشاف منهجيّات تراثنا العلمية ونظرياته؛ التي يَكثر تأنيبُنا لأنفسنا بأنّها معدومة حينًا، وبأنها متبدّدة حينًا، وبأنها تستعصي ولا تُطاوعنا حينًا آخر! كلّ تلك المِنح كانت تطبيقاتٍ واختباراتٍ حيّةً للمنهجية؛ التي يسعى شيخنا إلى تمكين طلاّبه من الوعي بها، والاقتناع بإنتاجيتها، والدخول في ممارستها بالتدريج وكلٌّ منهم يشتغل مستقلاًّ بتخصصه وطبيعة اتجاهاته؛ لأنّه يثق بأنّها من أكبر المعينات في تشكيل شخصية الباحث المتخلِّق بأخلاق طالب العلم، المتمتع بالارتباط العميق بجذور الأصالة العربية الإسلامية، والاغتذاء الواعي من مبتكرات الحداثة؛ لا حرمه الله أجر طلاّبه جميعًا؛ وجعلهم مُنجِزينَ مُحسِنين بارِّين! ** **