أبدأ مقالي هذا بسؤال راودني وأنا أريد التحدث عن سيميائية الأهواء، يعود إلى مقولة تتكرر بين الباحثين، مفادها أن المناهج التي تتجاوز في بيئتها ليس لنا الحق في إثارة السؤال عن صلاحيتها عندنا، فما هي الإضافة التي سنحدثها ونحن نبدأ من حيث انتهى غيرنا وهم الذين أنتجوا النظريات والمناهج؟ وهل الذي انتهى عندهم هو حقيقة عاجز عن أداء وظيفته عندنا؟ وها نحن نتحدث عن السيميائية، وكلنا يعلم مدى التطور والمراجعات التي طرأت على هذا العلم، حيث ما لبث البريق الإعلامي ينتقل من إضاءة اتجاه سيميائي معين حتى أصبح البريق الإعلامي ذاته موضوعًا لاتجاه آخر هو سيميائية الإعلام والاتصال، بل إن السيميائية اليوم تنفتح على المجتمع والتاريخ والعلاقات شرق غرب والعولمة, بنفس قدر انفتاحها على النص والإشهار والصورة والإرهاب والاقتصاد والجسد والروائح والمرئي وغيرها مما لا يعد، حتى لم يعد هناك موضوع تعرف السيميائية به، ولا نواة مشتركة ولا حتى منهج واضح المعالم؛ الأمر الذي جعل «فرانسوا راستيي» يقول في إحدى مقابلاته: «في اعتقادي يجب على السيميائية أن تتوقف على البقاء، مجرد فلسفة للدلالة، ويجب أن تكون علم العلوم، وأن تعتبر كل علم من العلوم الإنسانية سيميائية خاصة»، بل إنهم يتابعون كيف تهدد السيميائية اليوم بالتخلي عن جناح علوم اللغة؛ لتلتحق بمجال الإعلام والاتصال، وسيصبح الأمر أكثر من مجرد امتداد كانت «جوليا كريستيفا» قد تحدثت عنه في نهاية الستينيات، فتراها تشتغل بموضوعات كالسحر والإيماءة والطقوس وغير ذلك. ورأى «رولان بارت» من موقع الاهتمام بالدلالة الموضوع الأساس للسيميائية، أنها يمكن أن تدرس الأنظمة الدلالية المختلفة كاللباس وطرق الأكل ونظام المدينة وأنواع اللعب؛ لأنها تدل وبغزارة. فكان لا بد أن يصوغوا آليات من مناهج وعلوم مختلفة كالأنثروبولوجية والفلسفة وعلم النفس، إضافة إلى النموذج اللساني لتتم الإحاطة بكيفية تشكل الدلالة وسيرورتها. وأمام التطور الحالي للسيميائية هل بقي لنا نحن العرب مجال لطرح التساؤلات، ونكتشف معنى أن نكون مسايرين للغرب مباشرة، ما دامت الأسبقية عندهم مبررة على جانب السبق الزمني بكثافة ما ينتجونه من بحوث، وقلة إن لم نقل ندرة ما قدم في الوطن العربي، حيث بقينا مجرد متمرنين لما ينتجونه. وما إن نعتقد أننا فرغنا حتى نجد أنفسنا أمام مقولات جديدة واتجاهات وآليات أخرى؛ ليصبح التساؤل المشروع هو: هل استطعنا أن نمارس التحصيل الجيد والتوصيل الكافي والتأصيل الإيجابي ولو كنا متأخرين زمنيًّا؟ فليس عيبًا أن نكون بنيويين أو سيميائيين محايثين جيّدين حتى وإن تم تجاوز البنيوية والمناهج المحايثة في الغرب، إنما الخلل أننا نظل لا نعرف ما نحصّل من علم ولا كيف نوصله إلى المتلقي، ومن ثمة يكون التساؤل عن مدى استفادتنا من هذه العلوم والمناهج، وهاستطعنا أن ننتج من خلاله معرفة تضاف إلى التراكم الذي يسهم في صناعة الفعل الثقافي العالمي. ولا نظل انفعاليين في تبني الاتجاهات والمناهج فنتحمس لهذا ونتبناه وندافع عنه ثم ما نلبث أن نكفر به لنمارس نفس الانفعال مع توجه آخر. سيكون حريًّا بنا السؤال عن الفكر السيميائي المعاصر من موضع رفع التعارضات سابقة الذكر، فندرك أنه ليس خطأ أن نبدأ من حيث انتهى الغرب، والصواب أننا نحسن التحصيل ونكثف التوصيل اللائق لكي نوظف ونستخدم ما نتلقى سواء عن طريق الترجمة أو التلخيص أو التطبيقات التي نجريها على نصوصنا وأنظمتنا العلامية؛ لأن الأفكار الجديدة تقوم على التراكم, وفي مجال الفكر والعلوم الإنسانية والأدب واللغة لا توجد قطائع بقدر ما توجد إضافات، وليس هناك منهج جديد مخلص للجديد فحسب، كما أنه ليس هناك نظرية علمية سيئة، لتستبدل بها أخرى، إنما تقدم كل واحدة نتائج وجهة نظرها من الزاوية التي ترى بها الموضوع، الذي هو مثل المكعب الذي لا يمكن أن نرى كل وجوهه إلا إذا غيّرنا مواقعنا في كل مرة، ومثل ذلك فعلت البنيوية والسيميائية السردية, التي أماطت اللثام عن الآليات التي يتم بواسطتها إنتاج المعنى وتشكله، وهي وإن أغفلت السياق أو الشروط القبلية لتشكل الدلالة فلأنه كما يقول غريماس: «في النصوص التي حللناها كنا نلغي كل ما له علاقة بالنسق العاطفي كالتأثير الشعور، وهنا يكمن النقص؛ لهذا أحدثنا نوعًا من العودة إلى الوراء. لماذا هذا الرجوع كان ممكنًا؟ لأنه كانت هناك أداة هي آلية النحو الصيغي، فلاحظنا أنه لو أردنا وصف عاطفة ما كعاطفة البخل والغضب مثلاً فإنه بإمكاننا وصفها بمصطلحات البنية الصيغية». ولعله نفس التبرير الذي نجده في كتاب سيميائية الأهواء حيث عدت مراجعة السيميائية لنفسها ووقوفها عند نقائصها من صميم السعي العلمي لها. ليس التحمس للجديد مقياسًا للمعرفة؛ فليس كل جديد بالضرورة مخلصًا للجديد؛ ولذلك علينا أن لا نتحمس اعتباطيًّا وانفعاليًّا لما بعد السيميائيات السردية مثلاً، ونصفها بأنها أوقعتنا في وهم مضاعف، ونتهم أصحابها أو من نقلوها لنا بأنهم ساهموا في تضليلنا؛ لأن القطيعة في العلوم الإنسانية ضد المعرفة. والسيميائية السردية أو سيميائية الحدث جاءت في ظروف كانت إشكالية المعنى أو الدلالة عالقة بين المسعى اللساني الذي ادعى أصحابه أنهم لا يستطيعون التحدث عن الدلالة، ولا يمكن أن نقيسها بالآليات التي كانت متوافرة لديهم آنذاك، والمسعى الأيديولوجي والانطباعي الذي كان يعتقد أن الدلالة يمكن أن نقبض عليها دون الاحتكام إلى الشكل. من هاجس المراجعة أو سد الفراغات التي تخلّفها النظريات والمناهج سنحاول التحدث عن سيميائية الأهواء Sémiotique des passions ليس للتعريف بها فحسب؛ ولكن من أجل معرفة ما يمكن أن يحقّقه تطبيقها على نصوص الثقافة العربية، وكيف نسهم في إنشاء معرفة مشتركة تجعلنا مساهمين في صناعة الفعل الثقافي الكوني. إن سيميائية الحدث التي انبرت إلى تحليل التحولات داخل الخطاب, وقدمت وصفًا دقيقًا لعالم الأفعال التي تقوم بها العوامل والصيغ التي تؤسس لذلك العالم الحدثي والعلاقات التي تنتج عنها، تكون بالمقابل قد أسقطت من اعتبارها العلل التي تكون سببًا في صياغة ذلك العالم وهي مجموع الحالات العاطفية التي كان اهتمام سيميائية الحدث أصلاً قائمًا على التنكر لها؛ وذلك لعدم انسجامه مع البعد المحايث الذي أقام عليه «غريماس» استراتيجيته النظرية والمنهجية في تحليل ما أسماه بشكل المضمون، وكان ذلك يستجيب مع المطلب الطبيعي الذي أقام عليه ذلك السعي، ثم ما لبث أن أدرك ذلك النقص حين تفطن في كتابه عن المعنى Du Sens أن ذلك الإغفال سوف يحول - حتمًا - دون متطلبات التطور الطبيعي للسيميائية التي لا تركن إلى موضوع واحد أو في نظام دلالي واحد خاصة بعد الامتداد الذي أحاط به أصحاب التوجهات السيميائية الأخرى البحث السيميائي، حيث جعلوا من انتشارها واهتمامها بمختف المجالات والأنظمة ضربًا من نقد السيميائية لنفسها باعتبارها نقدًا للعلم أو علمًا نقديًّا كما جاء عند جوليا كريستيفا, وتأكد من خلال إضافات رولان بارت وغيره من السيميائيين كأمبرتو إيكو. ومن هذا الوعي أحسّ غريماس بأن الاهتمام بالشروط القبلية للدلالة المتمثلة في الحالات العاطفية هي جزء من الإسهام في هذه الإضافات، تجلّى من خلال كتابه المشترك مع جاك فونتانيي «سيميائية الأهواء» أو ما عبّرا عنه بالتحول من «حالات الأشياء إلى حالات الروح». * جامعة مولود معمري تيزي وزو - الجزائر للتواصل مع (باحثون)