يحسب المرء أنه لا يقوى على التفكير في الضجيج، مع أن أجمل الإبداعات البشرية ولدت من رحم الضجيج.. الفوضى ضجة وإن كانت صامتة تتبدى فيما حول المبدع، طبقه المهمل ببقايا وجبة كانت في صبح فارط، أشلاء ورقة كتبها، أو رسمها ثم صب عليها سخطه فمزقها، أو قلقه، ثم ألقاها بعيداً، قطعة من ثيابه مهملة فوق أريكة، أو تحت طاولة، كوب قهوته المنسي بمحتواه الذي برد، زجاجة عطره الفارغة التي يحتفظ بها على طرف مهمل، أقلامه الفارغة، وكتبه المهملة، وعملاته المعدنية المتناثرة.. وتلك الرغبة الملحة التي تداهمه للجلوس إلى مقهى يعج بالناس، أو يرتكن في زاوية من مطعم يلتهم قطعة حلوى، أو كوب شاي، ومن حوله مرتادون لا يهدؤون، أو حين وقوفه على رصيف شارع مكتظ، أو في زحمة محطات بمخاضها.. فمسالك المبدعين تضفي حولهم وجوهاً مختلفة لغرابتهم، وهم في الضجيج، والزحمة، والقلق، أكثر ما يبدعون، كما في ضجة البكاء، والصخب، والحزن، والضحك، هم في ضجة الموسيقى، وضجة المخيلة.. والدموع كذلك وهي تضج تحرضهم على الإبداع.. حتى زحمة الظلام تحرضهم، كما مخاتلة الأضواء تشجيهم.. فغالبية من المبدعين تتسم مسالكهم بغرابة مفرطة، وهم أيضاً يشعرون بأنهم غرباء، وأشد غربتهم حين لا يتوهمون بعدم معرفة ذواتهم، فيزجون أنفسهم في كلٍ صاخب، بصمت، أو صاخب بصوت علهم يلتقطونها، إلا أنهم في الحقيقة يعرفونها تماماً، فهي المفاعل المحرك لكل ما فيهم.. إنهم يشبون عن طوق هدوئهم إلى صراخ في دواخلهم يمتزج بأصوات ما حولهم، لينسل منهم بعد ذلك ما ينبثق من إبداع يتفاوت أثره بتفاوت ملكاتهم، وإحساسهم، ومعاناتهم، وبحجم اندماجهم، ومدى سكونهم، وحركة انزياحهم .. غريبون، غريبون، هؤلاء الفوضويون استثناءً، الفاعلون تفكيراً، وتأملاً، غوصاً، وانسياباً، حضوراً، وترحُّلاً.. المبدعون!! غرباء يلملمون اللحظة بين عينيهم، يسكبونها في وجدانهم، يمزجونها بهم، ثم ينسجونها أجنحةً ويحلقون!! عصارة ذوات لا تهدأ عن صخبها حتى في عنفوان تأملها!!.. حتى السعادة، الدهشة، الإعجاب تضج فيهم بما يميد!!.. الكلمات أعلاه: « خلاصة ساعات في مهرجان عنيزة الثقافي السادس - الطائرة رحلة 1072»