كأنما المعادلة أصبحت على غير اتزان في كل شيء.. إن وُجد من يكتب شعراً حقيقياً مضبوط الإيقاع متجلّي الصورة مدهش التركيب لغوياً وأدبياً فلا يُطلق عليه توصيفاً سوى (الكاتب)، وكل من يكتب أي كلام بلا أي أدوات أو ملكات أو حتى الحد الأدنى من القدرات المعرفية الصحيحة للكتابة أصلاً ولا أي معنى يستحق الذكر يوصف تعميماً بأنه (الشاعر)! ركيكة هي السطور أعلاه، ولكنها ليست شعراً - وأقسم بالله - كي لا يظن قارئُ اليوم أنها قصيدة (!).. فالقصيدة الأكثر شهرة في أيامنا الأخيرة كانت عنواناً للديوان الأكثر مبيعاً في آخر معارض الكتب وأكثرها أهمية! ماذا كان عنوان القصيدة؟ وأين كان المعرض؟ ومن هم الباعة الذين حققوا الأكثر به عند الجمهور؟ وأيّ جمهور؟ كل هذا لا يهمّ، فلم يعد ثمة اهتمام بكل ذلك بعد انتهاء الحفلة! * * * هل قلتُ (الحفلة)؟! نعم هي الحفلة التي وصلت لذروتها حدّ التلاشي، فكانت كأن لم تكن.. كأنما الصخرة التي كان من الصعب تحريكها من أرضها طارت فجأةً، أصبحت نورساً يتسلّى بملامسة قطرات تنفر من تيجانٍ ركّبها الهواءُ على رؤوس فقاعات أمواج بحرٍ لم يعد كاملاً ولا طويلاً ولا حتى رملاً؛ إنما هو مجرد بحر للكلام.. أيّ كلام.. لا كأنه، بل هو بعينه الرمداءِ الشعرُ! * * * هل قلتُ (الشعر)؟! أستغفرُ اللهَ وأتوبُ، فلستُ ممن يتطاولون على معلميهم وأطبائهم، ولكنني حزين وحيران، فلقد فقدتُ القدرة على التمييز بين المدارس والمشافي، كما فقد كثيرون ممن حولي القدرة على التمييز بين أيّ شيء ولا شيء؛ وهذا كل شيء! * * * هل قلتُ (كل شيء)؟! ربما، وكأنما كدتُ أن أفجُر بالقول... لولا بعضُ حيائي: علَّمْتني، يا حزنُ، أنَّ قصائدي مشفى لدائي مهما تطلْ طرقاتُ روحيَ من ترابيَ للسماءِ أكنتَ تكذبُ، يا صديقَ العمرِ؟ أَمْ بخلتْ قصيدتيَ الأخيرةُ أنْ تجرّعني دوائي...؟! * * * هل قلتُ (لولا حيائي)؟! بل قلتُ في زمنٍ مضيتُ بهِ وكأنما يمضي بيَ الغيمُ المقدَّرُ بالمتاهةِ، فوقَ بعضِ ترابهِ: لولا دوارٌ حول رأسي كنتُ لم أعدم طريقاً للوقوفْ لولا الظروفْ ما كنتُ أمشي، كلَّ عمري باحثاً عن ضائعٍ بين الحروف.