خذ مقعدك أيها الشاعر العظيم عند تلك الأريكة هناك، بالقرب من مصدر الضوء الباهر.. فأنا اليوم بحاجة لأنظر وجهك وأتأمل وقع كلماتي المعاتبة عليك.. لا تعقد ما بين حاجبيك دهشة، ولا تفه بكلمة، كن شاهدا ومستمعا فقط، لا حاجة بك إلى الكلام، فما أودعته في شعرك سأستدعيه وقتما أريد ليقوم مقام لسانك في حضرة هذا «العتاب».. أعلم أن السؤال يجول في داخلك مثل ضباب لا يجد منفذا للخروج.. لذا لن أشحن لحظتك بالترقب والانتظار، فما لهذا دعوتك.. لكن دعني أمهد لك بالذي غاب عنك حضوره، وقد رأيته بنافذ بصيرتك قبل أن تفيض روحك، قبل أن تبلغ بغداد بستة عشر فرسخا فقط، كنت وقتها قد جاوزت النعمانية وقاربت الصافية، فعدى عليك فاتك الأسدي ورجاله فقتلوك، وطوت الأرض جسدك ولم تبح بسر رمسك، وكأنما رأت فيه شاغلا لمحبيك عن شعرك، فتضيع نبوءتك التي أطلقها: وما الدهر إلا من رواة قلائدي إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا نعم، لم تشهد يا صاحبنا المتنبي صدق نبوءتك. بعضهم من غفلته يذهب إلى البحث عن ادعائك النبوة حماقة وجهلا، لن أذهب في البحث عن ذلك، وكيف كان، فما رأيت لك نبوءة صدقت إلا في شعرك، وبالتحديد في هذا البيت الذي تعصى على الطمر، ولم يستطع الناس بعدك إلا أن يكونوا منشدين له ولشعرك كله، بينما لج خصومك في تصيد أخطائك، وتتبع سرقاتك، ولكنك وضعت لهم الترياق المناسب حين اللجاجة والمماحكة، فأي قول لهم وقد ابتدرتهم هازئا: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم نعم والله سهروا، وتعبوا وما جنوا من ركضهم خلفك إلا الغبار.. هل أرضيت غرورك بهذا الذي لم تشهده..؟ أرى ملامح الرضا الآن على محياك.. لكن.. أنا عاتب عليك.. فقد فرغت لتوي من ديوانك بشرح عبدالرحمن البرقوقي، بعد أن طالعته بشروحات عديدة اشتط بعضها، وأنصف بعضها، وما علي من ذلك، فما هو وجه عتابي لك، إنما وجه عتابي أن هذه الطاقة الكبيرة من الخيال، والملكة التي لا حدود لها من الشعر، واللغة المطواعة المرنة الرنانة في نسيج قصائدك ذهبت بددا في مباذل المدح لمن لم يستحق، وبعض من استحق.. وأنفقت بقية العمر والشعر بحثا عن إمارة أو ضيعة ترضي غرور الملك فيك، فأنت ترى أن لسانك من الشعراء، أما قلبك ففي عالم الملوك يطوف.. أضعت علينا أيها الشاعر العظيم نفسك في هذا التيه، لو أنك فتحت نافذة الشعر على هذه الحياة لوجدت منادح لك من هذا الركض الذي لم ينته بك إلا إلى الموت.. أين الحب يا صاحبي.. يا أبا محسد؟ ألم يخفق قلبك، ألم تعرف المرأة وقلبها الأخضر.. إذا لم قصرت القول، وخفضت صوت الشعر، وضننت علينا بغزل يكشف لنا عن طوية نفسك المخفية خلف هذا الطموح الذي قتلك.. لا تغضب علي.. أحب أن أكون صريحا معك.. سأذكرك الآن بعائشة بنت رشدين.. لقد أذهبت وحشتك حين كنت في مصر، أحبتك بكل ما فيها، وأنت أحببتها بمقدار يقارب «الصلف».. هل حقا كانت من الحسن بمثل ما وصفها أديبنا علي الجارم.. أعلم الآن أنك تحب أن ترى صورتها في مرآة حروف «الجارم».. إذا اسمعه يقول: «كانت عائشة بارعة الحسن مشرقة الطلعة، لها وجه صباحي تحير فيه ماء الشباب، وتزاحمت فيه صنوف الفتنة: فعينان سوداوان فيهما سحر، وفيهما خمر، لهما نظرات ذابلة يخفضها الحياء، ويعترك أمامها اليأس والرجاء، وأنف تأنقت في تكوينه يد الجمال، لا ترى فيه عوجا ولا أمتا، وفم ياقوتي لؤلؤي ضن على الشفاه بالقبلات، وعلى العاشقين بالبسمات.. وخصر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا ثم هي إلى ذلك معتدلة القد، رخيصة الجسم، هضيم الكشح.. لها بشر الدر الذي قلدت به ولم أر بدرا قبلها قلد الشهبا وكانت صورة للعفاف، وتمثالا للطهر، وملكا سماويا كون من نقاء ونور».. هكذا كانت في مخيلة رجل وصفت له وصفا، فكيف بك أنت وقد جالستها، وقد عابت عليك جمودك، وحركت ساكنك، فبادلتها الحب، وضننت علينا بالشعر المخلد هذا الحب العظيم.. حاولت هي أن تستفزك يوم أنشدت قولك: من الجآذر في زي الأعاريب حمر الحلى والمطايا والجلابيب إن كنت تسأل شكا في معارفها فمن بلاك بتسهيد وتعذيب أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي ما أوجه الحضر المستحسنات به كأوجه البدويات الرعابيب حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب ثم سفرت عن وجهها متسائلة في دلال الواثقة من جمالها: أهذا حسن مجلوب بتطرية؟ أطرقت في حياء العفيف المالك لنفسه، وأفصحت بما في نفسك من حب لها وتمجيد لجمالها، ولكن بقيت تنتظر قصيدتها عندك.. فما تم لها ذلك.. حتى كان ما كان من رحيلك عن ديار كافور، وأرض مصر، تركتها هناك نهبا للذكرى، ومضيعة الحسرات، تذكرها الكتب لماما، ونفتش عنها في قصائدك فلا نجد لها أثرا، فنحاول أن نقارب المعنى بالمعنى لعلها تكون في جوف بيت من أبياتك الشوارد القلائل في الغزل.. أتراها ماثلة في قولك: تشتكي ما اشتكيت عن ألم الشوق إليها والشوق حيث النحول وإذا خامر الهوى قلب صب فعليه لكل عين دليل زودينا من حسن وجهك ما دام فحسن الوجوه حال تحول وصلينا نصلك في هذه الدنيا فإن المقام فيها قليل أم تراها تسكن هنا: لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي وللحب ما لم يبق مني وما بقي وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ولكن من يبصر جفونك يعشق وما كل من يهوى يعف إذا خلا عفافي ويرضي الحب والخيل تلتقي هل أتعبتك الجلسة، ومللت المقام.. سأرفق بك الآن.. عد إلى قبرك ونم.. لكن ثق بيننا جلسات أخر، فتزود بالصبر علي.