لاشك في أن القرآن الكريم كتاب الله المعجز، وآيته الباقية أبد الدهر، وذروة سنام اللغة في البيان، والمقام الأسمى في الفصاحة، ودقة التعبير، فكل لفظة فيه جاءت في موقعها السليم، ومكانها المتين، وبالتالي فلا قلق أو اضطراب في السياق، ولا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تكفل الله بحفظه إلى أن يشاء. ولعل عدم التفريق بين الألفاظ، وعدم الانتباه إلى استعمالها بدقة، يعود إلى الجهل بأسرار اللغة، وتفشي فساد الذوق لدى أبناء العربية، والتباس استعمالاتها، فالمفردة القرآنية تمتاز بالدقة في وضعها في مكانها الصحيح، بحيث لا تحل محلها غيرها، وهذا لا يتأتى إلا في الكلام المعجز عن النقص والشوائب، والزلل والخطأ، والتصحيف والتحريف؛ أي في كلام الله تعالى فحسب. ويمكن أن نحصر جملة من الخصائص، تجعل اللفظة المعينة، والمفردة ذاتها معجزة في سياقها، لا يمكن أن تحل محلها غيرها، وذلك بما يأتي: 1-الدقة في الوضع ، وبذلك نؤمن بأن هذا المكان كأنما خلقت له تلك الكلمة بعينها، وأن كلمة أخرى لا تستطيع توفية المعنى الذي وفت به أختها، فكل لفظة وضعت لتؤدي نصيبها من المعنى أقوى أداء. 2-اتساق المفردة القرآنية مع المعنى، وتتجاوز ذلك إلى السورة، بل إلى القرآن كله. 3-الدقة في الوصف، فكأن الشيء الموصوف يتحرك أمامك، تتملاه عيناك بكل ظلاله، وألوانه وحركاته وخيوطه. 4-الدقة في الانتقاء، أي أن اللفظة القرآنية مختارة في موضعها وصيغتها في التركيب بفعل السياق، فلا يمكن أن تستبدل لفظة بلفظة أخرى، بل قد انتقيت من بين ألفاظ أخرى دعت إلى ذلك الانتقاء، أولتها تلاؤماً مع السياق، وقد تكون المناسبة في ذاتها كجزالة صيغتها وسلاستها، وجمال تركيبها، وحسن اشتقاقها، وبديع تصويرها، كل ذلك كان داعياً إلى رجحان اختيارها ، وانتقائها. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر – لفظتا (جسد/ جسم) الواردتان في القرآن الكريم ، وحيث وردت لفظة (جسد) أربع مرات في سورة الأعراف، وسورة طه. قال تعالى : «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ». وقوله تعالى: «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ»، وفي سورة الأنبياء، قال تعالى «وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ». وفي سورة ص «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ». فالمعنى في سورة الأعراف وطه جسم جامد لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، بينما في سورة الأنبياء بمعنى (جسد) أجسام جامدة لا تأكل ولا تشرب، بل أناس يتغذون، وفي سورة ص (جسد) جسم لا قدرة له على تدبير الأمور. أما لفظة (جسم) فقد وردت مرتين ، الأولى في سورة البقرة ، فقال تعالى: « قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» والثانية في سورة المنافقين، فقال تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ»، فقد قصد الجسد الحي؛ أي ماله طول وعرض وعمق، وفيه الحركة والحياة. نخلص مما سبق أن لفظة (جسد) الجسم الجامد الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ، وبالتالي ليس له القدرة على تدبير الأمور، في حين أن لفظة (جسم) عكس ذلك تماماً؛ أي تعني الجسد الحي الذي فيه حياة وقدرة على الفعل. وهذا يفضي بنا إلى التسليم والإذعان على أن الألفاظ القرآنية ألفاظ منتقاة ومختارة بعناية ودقة، وأنها وضعت مكانها الصحيح بقصد، لا كيفما اتفق. ** **