يكثر هذه الأيام القول بوجود أخطاء في القرآن الكريم، وهو زعم ليس بالجديد، ومِنَ المعروفِ أنَّ القرآن نزَل بلُغة العرب الفُصحاء، ولو كان فيه خطأ لمَا سكتوا، ولكنَّهم لم يجدوا فيه عيبًا - وكان المشركون يتمنون ذلك - بل بُهِتوا عندَ سماعهم سورة النَّجْم. وأما من قالوا بوجود أخطاء في القرآن، فقد حصروا آياتٍ لما عجزوا عن فهمها ، قالوا بخطئها نحوًا وإملاءً تمثّلَ إعجاز القرآن في عصرالرسالة، في فصاحة ألفاظه، وبلاغة معانيه، وروعة نظمه. وقد لمس فصحاء العرب وبلغاؤهم وحذّاقهم في الشعر والنثر، أنّ القرآن لايشبه شيئا مما يصنعون، فهو كتاب لا نظير له ؛ إذ له هيبة تهتز لها النفوس تارة، وتقشعرّ منها الأبدان تارة أخرى. فأقروا بعجزهم عن معارضته مع أنه مؤلف من الحروف التي هي المادة الأولى لشعرهم ونثرهم. يكثر هذه الأيام القول بوجود أخطاء في القرآن الكريم، وهو زعم ليس بالجديد، ومِنَ المعروفِ أنَّ القرآن نزَل بلُغة العرب الفُصحاء، ولو كان فيه خطأ لمَا سكتوا، ولكنَّهم لم يجدوا فيه عيبًا - وكان المشركون يتمنون ذلك - بل بُهِتوا عندَ سماعهم سورة النَّجْم. وأما من قالوا بوجود أخطاء في القرآن، فقد حصروا آياتٍ لما عجزوا عن فهمها ، قالوا بخطئها نحوًا وإملاءً، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر : - الزعم بوجود خطأ في قوله تعالى (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا). فيقولون إنّ الخطاب موجّه لحفصة وعائشة. فلماذا لم يقل صغى قلباكما بدل صغت قلوبكما إذ إنه ليس للاثنتين أكثر من قلبين؟ والرد على ذلك ؛ أنّ القلب متغير فهو لا يثبت على حال واحدة ، فلذلك جمعه فصار قلب الإنسان قلوباً ، فالحواس كلها تُفرَد ما عدا القلب. ومراعاة للمثنى فقد ألحق الجمع (قلوب) بضمير التثنية (قلوبكما)،وجمع القلب في مثل هذا أكثر استعمالا من تثنيته. - الزعم بوجود خطأ في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) فيقولون كان يجب أن يجعل الضمير العائد على المفرد مفرداً فيقول ذهب الله بنوره. والرد على ذلك هو أن القرآن لم يشبّه الجماعة بالواحد، وإنما شُبهت قصتهم بقصة المستوقد ، فلما أضاءت ما حوله ، أضاءت للآخرين ، فكان عقاب الله أن ذهبت بأبصارهم جميعها. - الزعم بوجود خطأ في قوله تعالى : (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ..)إذ يرون وجوب رفع كلمة (المقيمين)ظنا منهم أنها معطوفة على المرفوع قبلها (المؤمنون) وهو خطا صارخ ؛ ذلك أنّ (والمقيمين الصلاة) جملة اعتراضية بمعنى (وأخص وأمدح) وهي مفعول به لفعل محذوف تقديره أخص وأمدح المقيمين الصلاة، وفي هذا مزيد العناية بهم، فالكلمة منصوبة على المدح،ولا وجه لعطفها. - الزعم بوجود خطأ في قوله : (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ منَ الْمُحْسِنِين) ، حيث كان يجب أن يتبع خبر إنّ اسمها في التأنيث فيقول قريبة. لكن كلمة قريب على وزن فعيل، والصفات التي تأتي على صيغة فعيل يستوي فيها المذكر والمؤنث ، وذلك مثل قتيل وجريح ، إذ يستوي فيهما المذكر والمؤنث ، فيقال :رجل جريح وامرأة جريح ، ورجل قتيل وامرأة قتيل. - ومن أكثر الآيات التي قالوا بخطئها قوله تعالى :(إنْ هذانِ لَساحِرَانِ) فقد ظنوا أن القرآن رفع اسم إنّ وكان حقه النصب ، جاهلين أنّ لهذه الآية تخريجاتٍ عديدةً ،قال ابن عاشور: "واعلم أنّ جميع القراء المعتبَرين قرؤوا بإثبات الألف في اسم الإشارة من قوله (هذان)، ما عدا أبا عمرو من العشرة، وما عدا الحسن البصري من الأربعة عشر، وذلك يوجب اليقين بأن إثبات الألف في لفظ هذان أكثر تواترًا، بقطع النظر عن كيفية النطق بكلمة (إن) مشددة أو مخففة.. أما القراءات الأخرى التي جاء اسم الإشارة فيها بالألف، فلها تخريجاتٌ ووجوهٌ إعرابية عدة، نذكر منها ما يلي: - (إنْ) مخففة من الثقيلة ومهملة، فلا عمل لها؛ أي: إنها لا تنصب المبتدأ، و(هذان) اسم إشارة مرفوع بالابتداء... و(ساحران) خبر (هذان) مرفوع بالألف. - (إنْ )بمعنى "نعم أو أجل "، ويكون المعنى: نعم هذان ساحران، وهو قول جماعة من النحويين. ويروى أنّ رجلاً قال لعبدالله بن الزبير : لعن الله راحلة حملتني إليك! فقال: إنْ وراكبها، أي أجل. - ( إنْ ) هنا نافية بمعنى ما ، واللام الداخلة على (ساحران) بمعنى: إلا، فيكون المعنى ما هذان إلا ساحران. وهو الأقوى في نظري ، ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى : (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ )أي ما الكافرون. وعلى الرغم من تعدد الوجوه الإعرابية للآية التي أشكلت عليهم ، فقد عدّ بعضهم مجيء (ساحران بالرفع) خطأ إملائياً وقع عند جمع القرآن !هكذا في غاية البساطة فكيف يقع الخطأ في القرآن ومن قبل بعض الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول صلى الله عليه وسلم وكان الوحي ينزل عليه ؟ بل كيف يصح القول بالخطأ وكان جبريل يراجع القرآن مرارا مع الرسول،كما راجعه مرتين في العام الذي توفي فيه ؟ ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده يسمحون حتى باللحن أي الخطأ الإعرابي (ورَوَى الحاكمُ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلاً قرَأَ فلَحَنَ، فقال : "أرْشِدُوا أخَاكُمْ"). - الزعم بوجود أخطاء إملائية في القرآن يعدونها ناتجة عن كتابته برسوم إملائية ، مخالفة للقواعد الإملائية المعاصرة ! ويضربون لذلك أمثلة بغية التشكيك في صحته، ولا يعلم أولئك أنّ المقصود برسْم المصحف: أن يُكتب موافقًا للمصطلح الإملائي الذي اتُّبع قي كتابة المصحف الإمام في عهد عثمان بن عفَّان، وصار محلَّ إجماع الصحابة والعلماء في القرون الثلاثة المفضَّلة وما بعدها. وأما القول بمخالفة الرسم القرآني للقواعد الإملائية المعاصرة، فيُرد عليه بأن طريقة الكتابة التي كان يَكتُب بها الصحابة والتابعون ليستْ هي الطريقة نفسها التي نكتب بها في عصرنا، ومَن اطَّلع على المخطوطات القديمة يعلم الفرْقَ بين الطريقتين، فمن الجهل أن نحاكم الرسمَ القرآني لقواعدَ إملائيَّةٍ وكتابيَّة نشأتْ بعده ، ثم إنّ القواعد الإملائية من الأمور الاصطلاحية التي اتَّفق عليها العلماء ولَمَّا كان الرسم الإملائي أمرًا اصطلاحيًّا، فيجوز أن يقع فيه اختلاف بين العلماء، كما يجوز أن يكون عُرضةً للتغيير والتطوير. فإذا كان الرسم القرآنيُّ قد بلغتِ العناية به هذا الشأنَ العظيم من الدِّقَّة والضبط، رغمَ كونه من الأمور الاصطلاحية الاجتهادية، فلا شكَّ أنَّ العناية بالأمور التوقيفيَّة والوحي المنزَّل قد فاق كلَّ ذلك عنايةً وحفظًا، وضبطًا ودقَّة، إذ تذكر كتب السيرة أنه عندما توفي عمر رضي الله عنه واستقر أمر الخلافة لعثمان رضي الله عنه كان العديد من الصحابة قد تفرقوا في بقاع شتى من ديار الإسلام، وكان كثير من الناس قد دخلوا في دين الله أفواجاً، ونتج عن ذلك ظهور خلافات في القراءات القرآنية وكادت تكون فتنة، فقررعثمان جمع المسلمين على مصحف واحد، وقد اعتمد عثمان في جمعه ونسخه للقرآن منهجاً تمثَّل فيما يلي: - الاعتماد على جمع أبي بكر، وفيه أن عثمان أرسل إلى حفصة طالباً منها إرسال الصحف القرآنية لنسخها في المصاحف. فأرسلت بها، فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش. - أن يشتمل الجمع على حرف قريش، وهو أحد الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. - بعد الفراغ من كتابة المصحف الإمام يراجعه زيد بن ثابت، ثم يراجعه عثمان بنفسه الذي تعهد بالإشراف على لجنة الجمع على نحو مستمر، فهل يجوز بعد هذا القول بوقوع الخطأ عند جمع القرآن ؟ وقد التزم الصحابة رضي الله عنهم هذه المنهجية في كتابة المصحف بشكل دقيق، ثم أمر عثمان بنسخ المصاحف عن المصحف الإمام، وأرسلها إلى الأمصار، وهي التي عرفت فيما بعد بالمصاحف العثمانية، ثم أحرق ما سواها من النسخ، ليس لوجود أخطاء فيها، بل درءً للفتنة، ومنعاً للاختلاف. وهكذا فإن عثمان رضي الله عنه بعمله هذا قد منع فتنة،وكان ما قام به سبباً من الأسباب التي هيأها الله سبحانه وتعالى لحفظ كتابه الكريم (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). وكل ما زعموا أنها أخطاء ينفيها قوله تعالى :(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). وكلُّ الآيات التي زعموا بوجود خطأ فيها - وهناك غيرها -تناولها النحاة بالتحليلِ والتفسير، لأنها جاءت على نهْج كلام العرب ولهجاتهم، وما مِن آية في القرآن إلا وتناولها المفسِّرون وَوَجدوا لها أمثلةً مِن كلام العرَب؛ ولذلك اهتمُّوا بدِراسة شعر العرب ونثرهم ومَن يقول بوجود أخطاء في القرآن ، فهو إمّا أنّه لا يفهمه، وإمَّا أنَّه لا يفهم اللُّغة العربيَّة الفصحى نحواً وصرفا ودلالة. وهذا يصدق عليه قول المتنبي : وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ وأقول لأولئك دونكم قول الله تعالى ، قبل أن تخوضوا فيما لا تحسنون (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ).