يعدها ويشرف عليها خالد أحمد اليوسف بالتعاون مع نادي القصة السعودي حكاية عطر بدأت حكايته حينما تسللت إليه رائحة عطر، وهو يحتسي كوباً من القهوة، علقت به الرائحة، تجسدت في خياله صورة امرأة فاتنة، ظل يبحث عنها، لم يجد منها إلا خيالا! ومازال سجين تلك السوق، التي تمثلت في مسرح؛ يرتاده كل حين، لعله يرى مشهدا يترجم هوسه من ذلك العطر، الذي غير مجرى حياته أربعة ناقص ثلاثة أرسل إليها ثلاث وردات حمراء وواحدة صفراء، رفضتها، احتفظت بوردة بيضاء جافة، ليست من عنده هروب ملتوٍ هرب من جنتها ، ليرمي بجسده في مياه؛ تشبه النيل في جريانه، فلا يلونها نزف الدماء، وإن هطلت من مزن حبلى متعددة في أماكنها ..! ليجد نفسه في حضن دافء، قد احتواه كاحتواء ( كرب ) نخلة لجذعها، لكن حينما كبرت النخلة وانحنى جذعها، وأصابت الشيخوخة ركبتيه، وأصبح لا يستطيع تسلق جذعها لكثرة عطوبه لفضته، فوجدوه شبه عار، بجوار مسجد قديم وسط غابة .!! حسن علي البطران - السعودية * * ربيع بلهفة أم أضاعت طفلها وقد خيم ليل الربيع .. سألتني عنه الحاجة وقد قاربت الثمانين.. رحّبتُ بها عند باب الغرفة وأخبرتها أنني لقيته عائدا من المركز الحضري ظهيرة وأنا في طريقي إلى العمل.. استعر قلقها من جديد .. لا ألومها لأني خبرت الرجل جيدا.. يغيب عن القرية شهرين أو أكثر بداعي إقامته بالعاصمة صحبة عائلته الكبيرة.. لكنه في حقيقة الأمر كان يكابر هناك بعيدا عن مسقط رأسه؛ حيث عاش مُرّ الحاجة وحرمان الطفولة.. لكن ورغم كل شيء هناك ما يثير لوعة الذكرى.. ذكريات أخرى يتوسّدها القلب وتُهَدْهِدُ الملائكة.. أهدتني طبق كسكس مُتَبّلا بمذاق زيت الزيتون؛ يزدان بحبات فول خضراء جاد بها الموسم.. ذاك الطبق زفّته إليها العائلة تبارك لها الوصول.. بالمركز الحضري نفسه اعتدت أن أزور صديقي كل جمعة .. طبق كسكس بتشكيلة خضر تتربع عليها حبات الحمص.. الطبق يغذق به علينا صديق حميم لصديقي؛ أعرفه منذ سنوات وأُكِنّ له احتراما و محبة .. يحمله على متن سيارته وهو في الطريق إلى العمل.. على رصيف المقهى نادل يقترب من الستين أدعوه إلى إصابة حصة من الكسكس.. تصيبني منه ابتسامة وشَرَرٌ من عينيه يعلن أنّ كسكسه قد تأخر.. هناك بالمنزل نساء وأطفال أدمنوا على الكسكس.. كل أهل الزقاق يَحُلُّونَ هناك كل جمعة.. الفقراء وبعض الميسورين أصابهم نفس المصاب.. لكنه أبدا لا يتأفف .. هو ذا مازال يبتسم .. يستسلم هنا تحت أشعة شمس الربيع على رصيف المقهى ينتظر.. قد يأتي أو لا يأتي. يُخَيِّم سكون قدسي على القرية الوديعة وقد غشتها حلكة الظلام.. يقتحم الباب له هَزِيمٌ .. ربما هي لمسة أخرى يَدَّخِرُهَا في رُكْنِ من أركان ذاكرة معارك الصحراء.. يُسْفِرُ الباب عن الشيخ الكبير نشيطا متعبا منتصرا وجلا منتصبا؛ ثملا بما شهدته عيناه من خصب الأرض وكرم السماء .. كل هذا وذاك.. تؤنّبُه كما تُؤنِّبُ الأمهات صغارها.. يُخفِض لها جناح الذل من الرحمة.. تماما كما كان يسلك مع أمّه التي غادرته طفلا غضًّا إلى دار البقاء.. حزينا لكنه يعرف تماما ما يفعل.. شغب الطفولة ودهاء الحرب.. هي الحياة ربما تستدعي منا هذا وذاك.. يتسلَّم منها حصته من الكسكس بينما تنقلب إلى أقاربها لتشاركهم متعة السّمر.. يدعوني إلى حصة أخرى من الكسكس. إدريس حنبالي - المغرب * * أحداث ما جرى.. من سيرة عبد الباقي المنسية قال عبد الباقي ابن عمي عن أخبار ما جرى: كنا نصيد العصافير الصغيرة ونقطع رقابها دون سكين. نوجهها حيثما اتفق ونشويها في النار ونأكلها بتلذذ.. أمي تقول إنها فطيسة وحرام لأننا لم نسمِ الله عليها. في الليلة التالية وفي أمسية مضاء فيها القمر. دقات قوية على الجدار. النسوة يحتشدن.. جارتنا أم الحسن مريضة. النساء يتوافدن زرافات ووحدانا، يلبسن الحلي في أيديهن ورقابهن. الثياب الزاهية والأجسام الممتلئة. شامة شيخة الزار تتوسد الحلقة. تسللت لأرى من ثقب الباب الخارجي احتفال أولئك النسوة.. الصراخ والرقص العنيف. التلطخ بالدم هناك من تلوث صدرها وثيابها بالدم. وأخريات ينثرن الرماد ويترنحن ويهمهمن ويذبحن الخراف والديوك السوداء، وديوك الحبش والرومي والبط. جدتي شمه تحكي لنا الحكايات عن فاطمة السمحة والغول وأبو زيد الهلالي ومخاضته عند منحنى النيل. وعن عنترة وعبلة وبطولات المهدية التي لا تنتهي. أمسكتني جارتنا عيشة متلبسا. نهرتني.. زجرتني. بشدة على أن لا أعاود التلصص على الناس. وهي المعروفة بطيبتها البائنة. لا أدري لماذا يحرم على الأطفال مثلنا الدخول لهذا العالم. كنا سبعة من الصغار نسكن غرفة واحدة ومعنا أختان لأمي.. سعيدة وبخيته.. والدنا متوفى وأخ أبي هو الذي يشرف علينا. كان يعاملنا بقساوة وشراسة وهو المعروف بعنجهيته وهستريا تركب رأسه دون سبب. كنا نكرهه ونعانده أحيانا. كنا نبكي وهو يسبنا والشرر يتطاير من عينيه أنهارا من الجنون نفسه. خياله يلاحقنا في الصحو والمنام. وحتى وإن ذهبنا للسوق بعيدا أو المدرسة. نعتقد أنه يشاهدنا. وعندما تزوج وأنجب دستة من البنين والبنات لم يعاملهم كما عاملنا نحن. كان يرأف عليهم (بحنية) زائدة. في الصباح تثور المشاكل لأن الشاي دون حليب أو فتات خبز حاف. كنا نتناول وجبة الإفطار المكون من عصيدة الذرة بالماء والبصل. لم نعرف معين (الآدام) إلا في الأعياد.. حين يتصدق علينا بعض المعارف باللحم.. المنزل عبارة عن عشة صغيرة . والدتي أنهكها التعب.. تعمل الزلابيا والطعمية وتبيعها في السوق. كما تصنع البروش والقفاف والأطباق من السعف الملون. كنت أعتقد أنني سأصير رجلا مهما في يوم ما.. أشياء تتراءى لي كفقاعات الصابون ولا أمسكها. كان عمي إبراهيم يقول لأمي إن هذا الولد ذا الرأس الكبير سيكون له شأن كبير.. وجبة الغداء دائما ما يفوت وقتها ومن ثم تأتي أمي من السوق ونتعشى.. حينها يناممن السابعة. الفقر هنا عشعش وترك له أبناء وبنات. الفقراء كثيرو الإنجاب ولكن أبناءهم مهازيل. تزوجت خالاتي الاثنتان اللتان كانتا يسكن معنا في نفس العشة. صرنا سبعة . خفّ المكان نوعا ما. حظهن التعس رماهن في أزواج فقراء. لا أحد استشارنا في مثل هذه الزيجات التعسة. سنوات قلائل وامتلأن بالبنين والبنات. شاهدت خفاض سارة الصغيرة جارتنا التي كنا نلعب معها سويا. شيء من الخوف والرهبة تملكنا.. إنه إذن خفاض البنات. سارة الصغيرة الجميلة تتلوى في أسى بين يدي نساء في حجم شجرة التبلدي. تصرخ صراخا يفطر القلب. كنا اثنين أختي وأنا. وعندما بلغت السادسة جاء رجل يطلب يد أمي.. وافق أخ أمي على عجل ليتخلص منا، أخبرني أنه بذلك سيكون لي إخوان عندما أكبر سيساندوني.. أتى لنا أختان وأخَوان فرحت بهما وإن كانت أمي كثيرة الشكوى والضجر وهي مازالت تشقى في العمل. تحيك الملابس القديمة، وتزور مقابر الصالحين، تضع عليها بعض النقود، وقطع القماش الملونة، وتأخذ البركة. أعلام ترفرف على ضريح والدي. كان رجل دين وقور ومهاب هكذا كانوا يقولون. لم أحضر كل ذلك. كنا أحيانا نأكل البليلة.. اللوبيا أو الدخن ونكتفي بها بقية يومنا ذاك. أطفال الحي يخطفون مني الحلوى والبلح الذي كنت اشتريه من دكان محمود جمعة. في مرة كل عام يزور قريتنا المداح. إنهم يمدحون النبي... والمهدي الإمام ومن ينزلهم ويحسن إكرامهم يذبح لهم الخراف. كنا نسهر الليل كله نسمع المديح بخشوع وننتظر حتى ينامون لنأكل ما تبقى من وجبة دسمة.. كنا نسرق النبق والليمون والجوافة من منزل منصور أحد التجار أعيان البلدة. درية ابنته رشيقة الجسم في لون المانجو الطازجة وجهها الجميل.. قوامها الممتلئ بالعافية. عندما أراها يدق قلبي بشدة. قال لي أحمد طلحة صديقي إنه الحب.. ما أتعسك إنه من طرف واحد. تلعثمت عندما هممت أن أرد عليها السلام. طأطأت رأسها خجلا. قميصها الموشي بورد أحمر .. المشدود بعناية على جسدها اللدن.. لم يفارق مخيلتي طيلة السنوات. خالتي عيشة أخذت عهدا مني أن لا أسرق الفواكه من منزل منصور ... وافقتها وأمي تشد من شعري وتقرص أذني.. تقسم زوجة خالي زينب أن لا تلد غير هذه المرة وما هو إلا عام وتنتفخ بطنها من جديد. النساء لا موقف لهن ولا أسرار يحتفظن بها. عرفت كل ذلك وأكثر. يضحكن ليمررن بعض أشيائهن وكذلك يبكين حتى يستجاب لطلباتهن كالأطفال تماما. كنا نسأل أسئلة لا إجابة لها من أينأتينا و أين يصار بنا ولا أحد يعرف الرد. عندما كبرت عرفت أن السرقة حرام كنا نفعلها كنوع من شقاوة الأطفال. النساء يكذبن وعندما يكن وحدهن يقلن أحاديث لا تكتب. الرجال يذهبون للعمل نهارا وأنا أستحم في الشهر مرة وأذهب مع أمي لزيارة جاراتها.. كن يضممنني في ألفة ويسلمن علي في خدي تارة وفي رأسي أخرى. كنت أشعر بلطفهن وأتمنى أن أظل هناك لمدة اطول، وأتساءل لماذا هن هكذا قويات كالموج .. رقيقات كالنسيم. زينب زوجة خالي ممشوقة القوام طويلة وبشعر مموج لونها كما القمح في اكتمال نضوجه. وخالي قمئ شديد السواد كزيتونة ممسحة. قصير ومجعد الشعر أفطس الأنف. كانت النساء يقلن ماذا حببها فيه حتى أولدته سبعة من الأبناء والبنات. أخي من أبي أخذه النهر يوم العيد. لم يعرف السباحة.. ركب المركب مع الأولاد الأشقياء وعندما صاح الصبية بأن صاحب المركب قد أتى هربوا هم ناحية الشاطئ وذهب هو ناحية النهر وابتلعه اليم. كان ذلك يوم حزن شديد. رحلنا من القرية للمدينة.. ولم يفارقنا الفقر....أمي اشتعل منها الرأس شيبا وتوفي زوجها الأخير. وذهب الأبناء للمدارس .كنت أعمل في العطلات الصيفية النهار بطوله وأساعدهم في عيشة المنزل. عند زواج خالي الثاني حضرنا حفلته وطقوس قطع الرهط الخاصة هو وزوجته داخل غطاء من الحرير والنسوة فقط يغنين .لا مكان للرجال هنا . بغطاء الحرير المنزلق العريس والعروس. وكان أن دلق عليها اللبن الحليب.. ونثر عليها التمر والحلوى وحبوب القمح تيمناً بالرفاء والبنين.. لقد أمسك عروسته الفارعة من الوسط تماما إلا أنها أفلتت. قلن له النسوة ألا يستعجل. كنت متشوقا ليوم مثل هذا نديا كورد طاعم .. كسمك الشلبوية ...يرفرف الفرح في صدري ويطير بجناحين من السرور والغبطة. غرقت في لذة منقطعة النظير. انبهرت بالأضواء اللامعة . بلعت ريقي ورحت في حلم طويل. عصافير تصيح، ونباح كلاب، ومواء قطط. والليل طويل. تتعرى فيه ذاكرتي. سارة يلتئم شيئها الصغير سريعا .. وتأتي للشارع بخطوات متعثرة. سألتها عن ذلك الشيء وعن تجاربنا الفطيرة في اللمس. ضحكت وازداد حنيني لضحكتها الصافية.. صارت أكثر جمالا بعد سنوات. عندما طلبها أحد المغتربين للزواج. فرح كثيرون .. اندهشت أن ما أجمل السريرة.. صارت أحلى بعد تهيؤها للعرس. كثيرون تحسروا إن لم يكن قد خطبوها للزواج. كنا نسبح معا ونلعب في الليالي المقمرة لعبات مشتركة وننام في الرمل حتى الصباح. تلك أيام للبراءالتي لن تعود.. وأحيانا يأخذنا النعاس. النساء يحلمن بالرجال والرجال يحلمون بالنساء. كنا نحلم ونحن صغار. نعرف كل شيء يحاول أن يخفيه الكبار. من يحبنا بلطف ومن يعبس في وجهنا كان لنا تفسير مغاير للعالم... نندهش لفراشة طائرة ونعطف لعصفور مهيض الجناح. ويستغرقنا الكون وما فيه. خاصة فصل الخريف. النساء يضعن نقاط من لون السكن على جبين الطفل الذي أنهكته الحمى. لكم قتلت الحمى كثيرا من الصغار والنساء، هنا يؤمن بالشيوخ الصالحين طاردي الأرواح الشريرة. كنت أقص كثيرا من الحكايا الخيالية للأطفال في مثل عمري. كانوا يسمعون باندهاش ويصدقون في سرعة. أما الكبار فكانوا يستهجنون حكاياتي غير المستساغة.. كنا نطارد الكلاب والقطط ونتجنب ذات اللون الأسود. ونراقب حركات الجراد والصراصير والخريف فصل شيق بأعشابه النابتة وحشراته العديدة التي كنا نفصل رأسها عن بقية الجسد، لنعرف ماذا يتم بعد ذلك. وعندما ذهبوا بنا للمدارس لأول مرة كنا نرى أن الحصص أقل تشويقا مما تعلمناه من الحياة. ليلاً يتحلق الأطفال يحكون القصص ما صحيح منها، ومنها الذي لا أساس له من الصحة. يحكون أشياء دافئة ولذيذة. وعن أشياء ليست بالجميلة ولكنها تزيل السأم .أن تسمع بالمعيدي خيرا من أن تراه. كنا نسمع أحمد عبدالله بأحاديثه الناضجة، أفكاره المنتقاة بعناية. تجاربه التي لا تكتمل. خلطه الجد باللعب، والصدق بالكذب، ولا يرمش له جفن. أحمد عبدالله يقول إنهن كلهن في الليل سواء. ونغالطه ملء أفواهنا. إنه يحب الجمال المتواضع ويقول إن القبيحات دائما غير مرغوبات فهن الأفضل والجميلات متكبرات. لتكن لطيفا معهن وستكسب. تلك نصائحه التي ينثرها كالدرر علينا. نتلقفها نصونها كقانون مقدس يجب الاستجابة له والدفاع عنه. ذهبت إلى السوق حيث كنت أعمل في محلج للقطن في المدينة ليلا، ومعي عشرات من الصبية، كنا نعاكس صاحب المحلج كثيرا.. ويوميتنا لا تتعدى ربع جنيه... كانت كافية لدخول السينما ومستلزماتها وأشياء أخر كثيرة حيث البيوت الواطئة مهد الحنان والحب. عدت إلى المنزل، وجدت عشرات النسوة، إن في بيتنا احتفال يا للمناسبة السعيدة... حيث لم يخبرني أحد. أمي فاطمة تتصدر الجمع إنه يوم دق الشفاه... لخالتي سعيدة.. الإبر الحديدية تنغرز في الشفة السفلي لخالتي سعيدة و دق الدفوف وأغاني كلماتها تحث على الشجاعة. الدم ينزل غزيرا وهن ممسكات بها ومن ثم يضعن لها السناج المأخوذ من دخان الصندواللبان العدني، وهي تتأوه صامته. إنه نوع من الجمال للزوجة الجديدة. هل هي عادة فرعونية أم عربية.. لست أدري! خالتي أم الحسن تشرف على هذه الطقوس، وهي التي تزوجت خمسة عشر رجلا بالتمام والكمال، وطلقتهم الواحد تلو الآخر، لأنهم تيوس على حسب قولها وهي لا تحب التقيد. جدتي شمه كانت تزغرد ونحن نشهد ختان ابن أختها الزين.. الزين صبي باهر الجمال أتوا له بالمطهر محمود الثمل دائما. تجمع الناس بعد وجبة غداء دسمة في بيت الشيخ البشير.. زوج جدتي كلتومه وبعد العصر خرجت النساء وفي معيتهن الزين كبدر يزينه الهلال الذهب روعة ووسامة. جاء محمود السكير بدل أن يجز الجلدة الخارجية جز العضو من أساسه. وصار هناك هرج ومرج وصياح. أتوا باللوري . ملأ الناس العربة... حتى آخرها.. ذهبوا للطبيب المختص. عالج الطبيب الزين في الزمن الضائع. وأقسم الشيخ البشير أن يجز رأس محمود السكير ولكنه لم يفعل. كذلك أقسم عمي إبراهيم أخ البشير أن يزوجه ابنته الجميلة أميرة... ولكنه بمرور الأيام نسي الأمر وانتهى موضوع الزين وحسرة كبيرة تملأ الأفق. لم يخلخل حياتنا الهادئة الساكنة إلا موت ابن خالتي سعيدة الفاضل بعد سنوات عديدة. الفاضل بنظراته الوديعة وجسده الناحل.. نابه وذكي. تعلم حتى سافر للخارج .كنا نسميه الفتي القزحي. وعندما أتى رفض والده أن يواصل تعليمه. التهب جسده بالنار يوم زواج أخته وادي الأمان. انقلب العرس إلى مأتم. صارت الدنيا بائسة في نظرنا. لأول مرة أعرف معنى الألم الذي يمزق نياط القلب.. أن تحزن حتى البكاء. كأننا لم نذهب لنجدته عندما استغاث. عقدة الذنب أخذتنا. لماذا لم نر أنه في طريقه للموت وكيف أننا لم ننقذه! الأيام أضحت كئيبة وضجرة تفتقد للحنان والحب. أثر فينا ذلك الزمن طويلا. وأتت الأحداث تترى....كلام كثير صرنا نسمعه.. تربينا عليه ولكن ما يخترق أرواحنا ذلك ما نشأنا عليه...... والحياة هناك جريئة وتجري على نسق شفيف.... إنه واقع متميز وصادق....... صديق الحلو - السودان * * الحواج سيكون هذا اليوم موعدا لملتقى نساء القرية، أعدوا العدة، وجمعوا كل ما لديهن من مال وأعيان استعدادا لليوم المشهود، وكل واحدة منهن يدور في خاطرها شيء، بينما يحاول قراءة عقولهن لاقتناء رزقه، يحضر متاعه منذ الصباح الباكر، يخبئ أشياءه الثمينة في جيوب لا يمكن أن يعرف مكانها أحد غيره ، ويحكم سيطرته عليها بأزرار خاصة صنعها بيديه، فكل شيء فيها يتبع فئة من النساء ، فقد قسم متاعه على قسمين: قسم يعم الجميع وقسم للخواص ، منظومته سارية المفعول ، إنه الموعد المرتقب لأهل القرية عموما، يتجول في أعماق البلاد يجوب الصحراء، يرسم بخطاه أحلام الذين ينتظرونه على أحر من الجمر، لا يمكنه اطلاعهم على حدود بداية رحلته كلها، وماذا لاقاه في الطريق، فحكاياته تستغرق شهورا ودهورا، ينتقي الرسائل والأعاجيب، يضرب بلباقة لسانه الأمثال، يشعل فتيل الحرب أحيانا بنقله الأخبار ، سمفونية الغرام تتبعها عيونه الموجه نحوهن، يمارس وزارات عديدة وحنين ربابته تعزفها الخيام، الأطفال يلتفون حوله من كل مكان، يطاردون بعير غربته صارخين: (الحواج.. الحواج.. جاء الحواج) لتدخل القرية مرحلة استنفار وهم يصفقون خلفه وقد تعرت أقدامهم، يتطاير الغبار في رحى أنظار الناس إليه، خيبة آماله قادته بعيدا، أم سعاد حضرت صوفها ولبنها ودهان السمن لتبادله أحلامها، فستان وأمشاط ملونة وكحل مغطى بالسواد، يومها المميز، ستقضي على أتعابها، وترتدي شبابها الجديد، ربما تكون الفرصة الأخيرة، لأن الحواج يغيب طويلا، دكاكين صهرت في دكان واحد، أما حمد فيمسك بأصابع غضبه المتاع، يفتش عن آلته المفضلة ليغرد بها فراغه الطويل على حافة غدران قريته الخضراء، يجر أذيال رحلته بعدما زرع أحلام يقظته بقاء.