عبثاً تحاولُ الدروبَ مشياً، كأنه الهروبُ، وتخافُ أن تستهترَ الأبوابُ بالقلوب التي لا تزال أقفالها أكبرَ منها، وأنت لم تزل تحتفظ بمفاتيح باتت أصغرَ من كل ثقوب الذاكرة ولكنها لم تسقط منها إلى نسيان. عبثاً تحاولُ الاطمئنانَ إلى المشي حتى على الهواء وأنت تختنقُ، حتى على الماء وأنتَ ظمآن. ولأن من قالوا بأنهم سيختبرون في صوتكَ الصمتَ، لم يكونوا جادّين في قولهم لك بقدر جدّيتهم في اختبار أدواتٍ لم يستخدموها من قبل، فقد فرّطوا في الالتزام بالوعد، وهيأوا للغشّ مكاناً بينك وبينهم.. هل كان ثمة ما يشبه المكان بينكم؟ لا تقس المسافات بالأمتار المربعة ولا بالأذرع المرصعة بزجاج لا يشبه المرآة. كلّ شيء لا يشبه المرآة يشبههم في الأبعاد ولا يقترب منك بأيّ من الشبهات. لا تكن منحازاً إليهم وتتخلى عن نفسك الضائعة فيك. ابحث فيك تجدها واقبض عليها تجدك دون بحث. هل يبحثُ الشاعرُ عن بحرٍ يلقي فيه أمواجاً من الإيقاعات؟ حسبكَ أن تفعل ما يحرّض فيك ملامسة الأشياء من قيعانها حتى السقوف. حسبك هذا الوقوف، ارتجل ما شاء بك السموُّ ولا تخشَ من سُحبٍ تتجمع أو تفترق.. مراياكَ تتجمّع وتفترق فامنحها خشيتك وجنبها اطمئنانك ولا تأمن الأمان.. وسلِّمْ كثيراً على كلِّ سلامٍ، وابتسم إذا ما أصبحتَ حطاماً ولا تنظر طويلاً للخلف ولا للأمام: كأنكَ ترسمُ شمساً على الأرضِ غيرَ التي في السماءِ، وترمي عليها ثيابكَ كي يحتويكَ الظلامْ كأنّ حياتكَ مسمارُ صُلبٍ ودنياكَ في طبقٍ من رخامْ فماذا ستفعلُ من بعد شمسين، في كل يومٍ تغيبانِ عنكَ وأنت تمدّدُ ظهركَ، مستلقياً، تتأملُ أنّ قتيلَ الصليبِ إذا غابت الشمسُ ثالثةً قيلَ: قامْ. لم يكن هذا مجرّد سؤال حتى أتحفه بعلامة استفهام، بل كان احتمالاً مجرّداً من كل ما تحمل في روحك من المتساويات.. فلقد تساوت في حنايا ضلوعك السعاداتُ الحميمة والألم، من بعدما تساوت في زوايا دروبك الأمانيُّ العظيمةُ والندم. فإن كنتَ قد روّضتَ مرآتك يوماً، ثم خرجتَ منها، ثم كتبتَ كلماتك عليها.. فلقد فاتك كثيرٌ من احتياجاتكَ؛ فاتك ضميرٌ يصالحكَ مع ذاتكَ.. وفاتتك لحظاتٌ كبيرةٌ كنتَ تحلم بها صغيراً، ولم تزل.. إن لم تسلّم على تلك المرآة المخلصة سلاماً خالصاً تستوي في موازينه وفرةُ المرايا وندرةُ السلامات.