سمّى زهير غانم مجموعته الجديدة «مياه المرايا» وهي الثانية عشرة له، (اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، سلسلة الشعر 2009)، وهذا ما يدل على أن وراء الشاعر إرثاً شعرياً طويلاً بدأ عام 1978 بديوان «أعود الآن من موتي»، وما قبل الديوان الأخير كان «شمس منتصف الليل» (2004)، ما يحمل على رسم صورة للشاعر تخصه في ألبوم عشرات الشعراء، فكما للأصابع بصمة، وللعين بصمة، فإن للقصيدة بصمتها وهي خصوصيتها التي تنفرد بها عن سائر المتشابهات أو المتجايلات من القصائد. وعثور الشاعر أو وقوعه على بصمته الخاصة في الشعر، مسألة صعبة ولكنها ضرورية لفنٍ يموت بالتماثل، ويعيش بالتباين... سيما أن ثمّة دفقاً في القصائد والدواوين والأسماء، بدأ يتدفق من خمسينات القرن الماضي مع أجيال الريادة الأولى في الحداثة الشعرية العربية، ولا يزال يتدفق حتى اليوم. ذلك لا يدل بالضرورة على أن الكثرة والتدفق في هذا الباب دليل الجودة، ولكنها بالتأكيد دليل تراكم كمّي كبير لمدوّنة الحداثة الشعرية العربية بكافة أجيالها وأنساقها وأساليبها، وهي أجيال وأنساق وأساليب تتقاطع وتتنافر، ولعلّ السمة الصراعية غالبة عليها، أو هي أكثر اغراء من سمة تدوير زوايا الصراع، والتسويات التاريخية التي بدأت تلوح ملامحها في الأفق، وذلك للوصول الى ما كان أشار اليه عبدالقاهر الجرجاني بمقولة «الجمع بين رقاب المتفرّقات»... فهذا الشعر العربي الحديث المتراكم على ارتفاع ما يزيد على نصف قرن من الزمان، بحاجة لنقد وغربلة وتنظير، حاجته هو لمزيد من دفقة الحرية في الكتابة، والمغامرة في اجتراح الجديد. إن في عنوان «مياه المرايا» لزهير غانم، أو في الجملة الإسمية للعنوان، عنصرين هما المياه والمرايا. والمياه منسوبة للمرايا. ولعل ما يحمل عليه هذا العنوان، كما تثبت لنا شواهد القصائد، هو السِمة المائية للشعر المكتوب وكأنه مرايا للأحوال والأبعاد ولأفكار وصور وكلمات الشاعر، التي تأتي وكأنها مرايا عاكسة لما يحيط به من عالم الخارج، أما لما يحسّ به أو يفكّر فيه أو يحلم به من عالم الداخل. فالعنوان محمول على أنه مائي أولاً... والمائية (أكواريل) هي نوع من الرسم الشفاف، الى جانب الرسم بالزيت، من سماته الألق ونظافة الصورة والتعامل مع الزمن الأبيض للوجوه والزهور والأشياء أكثر من الحفر في أعماقها بقسوة الزيت وريشته الصلبة. ولعلّ الشاعر لو قلب ترتيب جملته الإسمية للعنوان، فاستعمل «مرايا المياه» بدلاً من «مياه المرايا»، لكان شاء أن يجري تغييراً جوهرياً في تقنية القصائد، ذلك أن تقنية «المرايا» أو «المرآة» في القصيدة، هي جزء من تقنية الرمز والأسطورة والقناع، في الشعر الحديث... حيث تتعدد جوانب الرؤية، وتتعدد انعكاسات المواضيع في مرايا الكلام، التي غالباً ما لا تكون مرايا ملساء أو مسطحة، بل هي متكسرة، ومقعّرة، ومحدّبة... وهي أساليب مسرحية من أساليب الشعر الحديث، وتتداخل في ما بينها لجهة تعدد الأصوات والأشخاص والأزمنة... فإن تقنية القناع على سبيل المثال Masque، مأخوذة للشعر من المسرح، فالممثل الذي يلبس القناع، ينطق عن شخصين أو أكثر في تمثيله، فهو المتكلّم والغائب في وقت واحد، وربما كان أكثر من اثنين، أو ثلاثة... ربما نطق عن الجماعة من وراء القناع. وهذه التقنية الشعرية (أي تقنية القناع والمرايا) بحثت في الشعر العربي الحديث والمعاصر، متفرقة وبأبحاث متباعدة، ولم يفرد لها حتى الآن كتاب شامل جامع، نظراً لكثرة قصائد القناع والمرآة (كتب فيها إحسان عباس وخالدة السعيد على سبيل المثال). في قصائد «مياه المرايا» لزهير غانم رسوم مائية لحالات النفس والأحبة والحروب، أكثر مما فيها مرايا مركبة ومعقدة لهذه المقولات. لذلك غلب على القصائد النفَسً الغنائي، أكثر مما غلب عليه النفس الدرامي والمسرحي. وهذا النَفَس الغنائي الإنشادي غالباً ما هو طويل، وملتفّ على نفسه، وربما وجدته أحياناً شبيهاً، مع فارق الأزمنة واللغة الشعرية، بما وصف به ابن الرومي صوت «وحيد» المغنية حيث قال: «مدّ في شأو صوتها نفسٌ وافٍ/ كصوت عاشقيها مديد» سمة الغناء هذا الشأو الطويل في الغناء، هو أبرز سمة من سمات زهير غانم، حيث كل معنى وحال وكل بال وبلبال، محمود لديه على أجنحة الوزن، ويطير هذا الوزن بالقصيدة طيراناً طويلاً، حتى أن آخر قصيدة في الديوان، وهي قصيدة «عاصفة الشتاء»، ويكتبها الشاعر بنسق سردي نثري على رغم أنها موزونة بكاملها على تفعيلة الكامل أو مجزوئه «مستفعلن» وجوازها «متفاعلن»... هذه القصيدة تطير طيراناً هادئاً متصلاً بلا توقف يذكر، على مساحة قد تملأ خمس الديوان، فيما لو كتبت مقطّعة، وكأنها جملة شعرية واحدة تبدأ من: «... كنتُ متحداً أظن بأنني متفرّق وكأنني وجه عتيق حين تتقد المسافة يستعير الجرح من وجد الصبابة يعزف الآهاتِ في الأضداد لو رؤيا تفيض به ولو حجر يحيط بعمقه المائي كان دنا من المرآة أبصر وجهها وتطاولت أيامه في أدمع العينين وهي تشيل من غابوا وتضجر في البكاء كأنها الدنيا... ....».... وصولاً الى آخر أسطر القصيدة... «... حسبكِ أن تكوني من هنا من صورة الدوريّ أو رجعِ الحمام على السطوح وشوقه البري قلتُ أما يراكِ الزهر آثرَ أن يراكِ وكان أعمى يستريح الى الندى كي يشعل الأشجار والأوراق كي يدنو الى الإشراق شمسكِ أشرقت وتناوحت في الليل كنت أنوح حتى تبرد الحسرات كنت أبوح بالآهات بالعشق الذي يتذابح الزفرات داويةً وحارقةً وخاويةً على صخب من الأمواج كيف أعيش لولا أنتِ في الأبراج كيف أعيش يا لغتي وتدويني». ولعل هذين المقطعين من هذه القصيدة الطويلة، يدللان بشدة، على تقنية الإنشاد الموصول المتواصل التي يجيدها الشاعر، وتحسّ أنه يبدأ غناءه من لا مكان وينتهي الى لا مكان، فبإمكانه على سبيل المثال، أن يواصل التشيد بعد ختمه بنقاط متتالية، وكأن هذه النقاط ليست كافية لإيقاف النفَس الشعري، بمقدار ما هي التقاط مؤقت لنفس شعري قابل للامتداد الى ما لا نهاية للغناء، فالغناء هنا مفتوح وليس ظرفياً، وهو كتقنية وزن وحشد وترجيع، قادر على أن يجرف في سيله كل ما يمكن أن تحويه القصيدة من نقائض أو أحوال أو لحظات، من النار والبرد، والأول والآخر، والحب ونقيضه، والكتابة والمحو، والبداية والنهاية، وتداخل الأمكنة والأزمنة وما في اللغة من جناس وطباق «... كان النهر يعرف ضفتيه ويعرف اللغة الكتابة والكآبة في عراءٍ عارمٍ من قسوة التنهيد والترديد...» والأمر وعكسه «جرّبت الندامة وارتددت من الندامة» والتربيع والتدوير والتشجير... الى ما هنالك من ممكنات وضديات وأحوال... ذلك أنّ اللغة لدى الشاعر، وهي محمولة على أجنحة مهيأة للطيران الدائم، قادرة على أن تلعب لعبتها كاملة ومرتاحة وحرّة فتتناسل وتتوالد وتأتلف وتختلف على هواها... «... حبيبة قلبي المدحور نادتني لكي تصل الجبال مع الجبال مع الرياح وما وصلتُ وما جرعت وكنتُ أبكي تارة أو أنني ما كنت أحلم أنني أبكي على حلمي وقفت غرقت في كتفيك مثل بحيرةٍ...». وهكذا، فالقصائد التي هي في الحب والحرب والأمكنة والأشخاص والأزمنة والتذكّر... مغمسة في «مياه المرايا» بهذه المياه الرقراقة، وهي ذات زمن مائي أي غنائي منساب وموصول كجدول لكن لا أول له وليس له آخر.