تأتي مرحلة حاسمة تحتم قطع هاجس التردد أو التلاعب بالمواقف أو الرقص على حبال الكلمات أو ارتداء طاقية التخفي أو ارتداء قمصان الدبلوماسية؛ فلا مناص من أن يضطر الحائرون التائهون في هوياتهم حين تحتدم المراحل إلى أن يحسموا أمرهم: مع من هم؟ وإلى من ينتمون؟ وما هي هوياتهم الحقيقية؟ وهل هم منتمون صدقًا أم مدعون؟ مؤمنون حق الإيمان أم يتظاهرون؟ وجهتهم تراب هذه الأرض التي ولدوا فيها أم تلك التي تتوق أرواحهم إلى التمسح بأعتاب مزاراتها؟! ليست هذه التساؤلات مصوبة إلا أولئك الذين يعلون من شأن الطائفة ويخفضون إلى حد التلاشي من شأن الوطن، وإلا إلى الذين يعلون من شأن الأمة وينسون الوطن! رزئنا بفئتين لا تمثلان الشيعة كلهم ولا السنة كلهم أيضًا؛ فإذا كان من الطائفة الأولى من يرتمي في الحضن الإيراني بسبب الانخداع بالشعارات، وينسى لغته وأرضه وتاريخه وقومه؛ فإن فيهم لا شك من يعلي قيمة الوطن فيجعله في المقام الأول والطائفة في المقام الثاني، ولا تشكل لديهم إيران شيئًا يذكر؛ بل إن عقلاء كثيرين فيهم واعون كل الوعي بأطماع إيران في المنطقة العربية، ومدركون كل الإدراك أن النداء الطائفي الإيراني ليس إلا للتأثير على العوام والغوغاء وجذبهم إلى المحور الفارسي؛ بحيث يكونون أداة طيعة لتنفيذ أطماع إيران؛ فيهدمون بأيديهم حصونهم العربية ويقيمون على أنقاضها حصونًا وقلاعًا فارسية؛ كما يحدث بصورة جلية محزنة في العراقوسوريا واليمن، هؤلاء العقلاء المعتدلون من شيعة العرب في لبنانوالعراق والخليج وغيره يقفون بكل البسالة والشجاعة والجرأة على منابر الرأي يكشفون زيف الدعاوى الفارسية، ويكتبون ويخطبون ويتباحثون مع إخوانهم في العروبة سنة وشيعة لوقف المد الصفوي الذي يجتاح المنطقة ويدمرها تحت العمامة الطائفية المزيفة، وهم أيضًا يدركون أن الفارسي ينظر بفوقية واستعلاء إلى العربي، وتتقافز الكلمات والإشارات في النصوص والخطابات بضرورة الثار من الجرح القديم الذي ما زال ينز نازفًا في الذاكرة الفارسية من قادسية عمر، وليست الشتائم التي أقام معمارها الفرس لعمر إلا لكونه الخليفة الذي أشرف ووجه الجيش العربي الإسلامي بفتح ديار فارس وما وراءها. لا توجه الرسائل في هذا المقال أبدًا إلى الشيعة العرب المنتمين بصدق إلى عروبتهم وأوطانهم العربية؛ سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو دول الخليج العربي، المؤمنين بالولاء لأوطانهم، المدافعين عنها، الحاملين همومها وشجونها وشؤونها في جوانحهم، المتألمين لألمها، المنتشين بفرحها، المعادين من عاداها؛ حتى لو كان العدو يزعم الانتماء إلى طائفتهم أو مذهبهم. ولا شأن لنا بالمعتقدات التي كفلها الدين نفسه؛ إِذ حرية الاعتقاد في المجتمع الإسلامي مكفولة محفوظة لغير المسلمين من النصارى واليهود وغيرهم ممن يعيشون ويتعايشون مع المسلمين؛ فكيف بالمسلمين أنفسهم إذا اختلفت مذاهبهم أو آراؤهم أو انتماءاتهم الفقهية؟! ولا توجه الرسائل في هذا المقال أيضًا إلى السنة الذين يعتقدون أن حب الوطن من الإيمان؛ بل إلى فئة حزبية قليلة متطرفة في انتمائها إلى فكر جماعة الإخوان المسلمين الذين لا يرون الأوطان إلا حفنة من تراب لا قيمة له، وأن الأمة مهما تباعدت وتناءت واختلفت لغاتها وثقافاتها هي أوطانهم؛ فيضحون بالوطن الذي أضلتهم سماؤه وأقلتهم أرضه وارتووا من مائه بديار لا يعرفونها ولغات لا ينطقونها وأقوام لا يألفونها بوطنهم وأهلهم ولغتهم وتراثهم وتاريخهم؛ فبئس الوفاء والانتماء والادعاء. موقف ذميم، وتطرف قبيح من الفئتين، فالطائفي المنتمي إلى إيران بسحر المذهب المتنكر لوطنه الممجد لشعارات وثقافة وتاريخ وزي الفرس عدو العرب جميعًا والمملكة على الأخص كاذب كل الكذب في ادعائه الانتماء الصادق إلى الوطن، والإخواني الحزبي المنتمي إلى الجماعة روحًا ووجدانًا وعقلاً ووطنًا أكثر من انتمائه إلى وطنه ليس بأقل من الطائفي في التزييف والتلاعب بالكلمات وارتداء لبوس الدبلوماسية خوف الانكشاف.