في طريقنا إلى السكن توقفنا عند بوابة مرورية يشرف عليها رجل كبير في السن، بدأ يهذي علي بالأسبانية، فافترضتُ أنه يريد مالاً ليسمح لي باستخدام الطريق، فهناك كلُّ شيء بمقابل، وصلنا في غضون نصف ساعة إلى ضاحية من ضواحي (مدريد) تدعى Las Rozas شمال غرب العاصمة، حيث السكن حيث السعر المناسب والمواقف المعفاة من الرسوم المرورية، كانت شقة صغيرة لم تنقصها وسائل الراحة طوال الأيام الخمسة التي قضيناها فيها. أعطانا الصباح الجديد فكرة عن الأجواء الأسبانية التي اعتقدت أنها أكثر برودة في هذا الوقت من العام، لكن حرارة الشمس التي تشرق في الثامنة كان لها رأي آخر، رغم الأجواء الصحوة الهادئة والسماء الصافية، فضَّلنا أن تكون محطتنا الأولى حديقة (ريتيرو) التي كانت في الأصل قصر استجمام للملك فيليب إلى أن تم تدميره في الحرب الأهلية وافتتحت للعامَّة عام 1800م، تشتهر الحديقة بمساحتها الواسعة وفعالياتها المتنوعة وأشجارها الضخمة، وتعد رئة المدينة ومتنفسا للسكان، ويقام فيها العديد من المهرجانات والمعارض، وفيها يمكن أن تستأجر زورقاً أو قارباً لتبحر في البحيرة الاصطناعية الكبيرة التي تتوسطها، ولأنَّ الأسبانيين -كغيرهم من الشعوب- يحبون تخليد ذكرى قادتهم، فقد شاهدتُ في أرجاء الحديثة تماثيل من القصر الملكي تصوِّر ملوك أسبانيا على مر العصور، إضافة إلى نصب تذكاري خاص ل(ألفونسو الثاني عشر) الذي حكم أسبانيا من 1874م حتى 1885 ولقِّب بصانع السلام. في الحديقة لاحظتُ أنَّ الشعب الأسباني مهووسٌ بالرياضة، ليس بمتابعتها فحسب كما هو حال أصحابنا، بل بممارستها وعياً بأهميتها، رأيت في الحديقة مختلف الأعمار، فرادى وجماعات، يمارسون مختلف الرياضات وليس المشي والجري فحسب، رغم حرارة الشمس وسخونة الأجواء نسبيا. حين خرجنا من الحديقة فوجئتُ بورقة على الزجاج الأمامي للسيارة فهمت من طلاسمها وأرقامها أنها مخالفة مرورية تجاوزت ال350 ريالا، تبين لي بعدها أنَّ المواقف المخططة بلون غير الأبيض برسوم مالية ومحددة بوقت معين، كان الشك يراودني قبل الوقوف، لكن عجزي عن إيجاد مكان قريب ورغبتي في توفير الوقت أوقعاني في هذه المشكلة التي علمتني درسا جعلني أحسب ألف حساب للموقف الذي أختاره، وختمنا ذلك اليوم بآوت لت Las Rozas الشهير الذي كان قريبا من السكن، كان السوق أنيقا وهادئا لبعده عن صخب المدينة، زادته الأجواء المسائية البديعة جمالا؛ كونه لم يكن مسقوفا، وختمنا الزيارة بمجمع لطيف للمطاعم ملاصق لهذا السوق. ومع أني ضعيف الاهتمام بمتابعة الرياضة، ولم أدخل ملعبا في حياتي، إلا أنه لا بد من زيارة ملعب (سانتياغو بيرنابيو) الذي سمي على اسم رئيس نادي ريال مدريد في تلك الفترة تكريما له، هذا الملعب التاريخي الذي افتتح عام 1947م ويتسع لأكثر من 81 ألف متفرج، هذا الملعب الذي تجاوز حدود كونه ملعباً ليضحي معلماً من أهم معالم العاصمة، أوقفنا سيارتنا في مواقفه السفلية وبدأنا رحلة اكتشاف هذا الصرح الضخم الذي يجذب الملايين في كل عام، كانت الزيارة مقسمة إلى أقسام، ترى في الأول منها الملعب من أعلى قمة في مدرجاته، ثم تقترب إلى الوسط، إلى أن تمشي في مضماره، يتخلل ذلك زيارة المتحف الخاص بالنادي الذي يكشف لك عن تاريخه في تحقيق الألقاب والكؤوس، وأشهر اللاعبين الذين خدموه، من خلال طريقة عرض مبتكرة جاذبة تجبرك على الإعجاب به حتى لو لم تكن مهتما بمتابعته، ثم تختتم هذه الزيارة التي تستغرق 3 ساعات بزيارة متجر خاص بكل ما يتصل بهذا الفريق. بعد أن خرجنا من الزيارة اكتشفتُ أني فقدتُ مفتاح السيارة، كانت لحظةً حرجة للغاية، بحثنا عنه في كل حقيبة، تمنيتُ أن أكون نسيته في السيارة، رجعتُ إلى المتجر وأخبرتُ رجال الأمن دون فائدة، افترضتُ أنه سقط مني أثناء الجولة داخل الملعب أو في مدرجاته أو دهاليزه الكثيرة، أيقنتُ أن العثور عليه شبه مستحيل في هذه الحالة، ثم تذكرتُ فجأة أنه تم تفتيشنا عند بوابة الدخول، فانطلقتُ راجياً أن يكون عند المسؤول هناك، لم يكن يفهم حرفاً من الإنجليزية، وحين رأت إحدى السيدات ارتباكي قامت بالترجمة فأشار إلى المسؤولين في الأعلى وسمح لي بالدخول، وهناك التقيتُ بمفتاحي الأثير الذي كان ضياعه سيقلب مخطط الرحلة رأساً على عقب.