«أنا الذي ابتعدتُ لسنواتٍ طويلة عن هؤلاء الناس من أبناء بلدي ،وعن تفاصيل حياتهم اليومية» .. أبناء هذه المدن والقرى الذين لم تُقصِهم المنافي يحوّلون الأمر إلى مادة للتندّر هل هو التعوّد ؟ أم هي المكابرة ؟ أن هي الثقة التي تراكمها ثقافة الإقامة في التفاصيل؟.. مريد البرغوثي لم يكتب سيرة ذاتية فحسب بل حيرة ذاتية بدأت باستفهامٍ وانتهت إليه لم تكن لفلسطين وحدها بل للإنسان كله لرحلة ابتَدَأتْ ولن تنتهي .. مريد البرغوثي كتب فلسطين بهويّتها و قدسها وقدسيتها ووجعها وكرامتها وحربها وصرختها وقهرها وسلْبها وشعبها و دمارها و صمودها وغربتها وتغريبها وكامل تفاصيلها الزمانية والمكانية .. رواية تصف رحلته مع ابنه حينما اصطحبه لأول مرة لموطنه الأم «فلسطين» وكمية الحكمة والصبر عند وداع زوجته رضوى عاشور التي كانت حاضرة في الرواية بشكل أصيل جداً .. يشبه تماماً ملامح العائلة عند نعش وفاتها -رحمها الله- يقول مريد: (وراء كل شجرةِ زيتون ثمة شجرة أنساب لفلاحين فلسطينيين الزيتون في فلسطين ليس مجرد ملكية زراعية إنه كرامة الناس، هو نشرة أخبارهم الشفهية ، رفيق لقمتهم، في موسم قطافه يحوّل رجال القرية ونساءها وأطفالها إلى شعراء ومغنيين).. ثم يصف حال القهوة وأحوالها ومواقيتها وأسرارها وتقديمها فيسرد : (يختلف الناس في سر القهوة وتختلف آراؤهم: الرائحة، اللون ، المذاق ، القوام، الخلطة الهال ، درجة التحميص، شكل الفنجان، وغير ذلك من الصفات. أما أنا فأرى أنه «التوقيت «. أعظم ما في القهوة « التوقيت أن تجدها في يدك فور تتمناها. فمن أجمل أناقات العيش، تلك اللحظة التي يتحول فيها تَرَف صغير إلى ضرورة).. بهذا الأسلوب اللذيذ الممتع الرائع يسرد لنا «مريد» مقتطفات زيتونية ليسكبها في كوكب يوقد من شجرة مباركة «مريد المثقف الفلسطيني» كيف استطاع رسم فلسطين في رواية ! وهو الذي قال عن القدس : (أتعَبَتْ كل البشر لا أعرف مدينة على كوكب الأرض أتعبت أهل الأرض كالقدس !) سطرها لنا في 274 صفحة .. فعرفنا معنى الاحتلال في تساؤله وهو يلوّح بقلمه: (الأمر دائماً ليس بيدنا، وإلا فما معنى الاحتلال ؟!) وفي وسم «الأب والابن» وبعد أن أكمل أوراقه الثبوتية ارتسمت لنا ملامح المهمة المكتملة التفاصيل والتواقيع والأختام باللغة العبرية (نعم العبرية وإلا فما معنى الاحتلال ؟!) مريد الذي تعود الصمت كي لايكون جوابه عن سؤالٍ ما محرجاً أو خطراً أو مستفزاً لذكرى مؤلمة حتى قال: ومن منا يدري أين يجره لسانه؟! الآن وبعد قراءات عديدة لشعراء و روائيين عرب أؤكد أن مريد البرغوثي وضعنا في قلب الحدث و الحديث والقضية والتهمة والمنفى و الاغتراب والحرب والحب مريد استطاع بنثره الشاعري أو شعره المنثور أن يجعلنا نفيض إنسانية، يرحب بنا بقهوة.. ويعتذر لنا ونحن نتشبث بخواتيم الرواية: (الوقت هنا لا تقيسه ساعة يدك ، إنه يقاس بقدرتك على الصبر). هذه سيرة مكتوبة مكلومة لايشعر بها إلا قارئ حساس و ذكي ليعيش دواخلها ولا يخرج منها، الخروج من فلسطين: موت. يا الله... التفاصيل التفاصيل. وكفى !