كان يعرف أنني ولدت "هناك"، وبعد نصف ساعة فقط سأقول له: ولدت "هنا"، يقول الشاعر مريد البرغوثي وهو يقصد مخاطبة ابنه تميم، في زيارتهما الأولى معاً إلى رام الله. يعود مريد البرغوثي إلى فلسطين في رحلة أولى بعد ثلاثين سنة من الغياب، عبر جسر خشبي كثير الأسماء "صوت الأخشاب تحت قدميَّ. فيروز تسميه جسر العودة. الأردنيون يسمونه جسر الملك حسين. السلطة الفلسطينية تسميه معبر الكرامة. عامة الناس وسائقو الباصات والتاكسي يسمونه جسر اللنبي. أمي وقبلها جدتي وأبي وامرأة عمي أم طلال يسمونه ببساطة: الجسر.. المرة السابقة مباشرة كنت ولداً. هذه المرة أنا والد. والدٌ لولد هو الآن في مثل عمري عندما مررت من هنا لآخر مرة!". رأى البرغوثي الأب زيتون فلسطين صامداً في مشهد تحدٍّ في محيط المستوطنات. هو ذاته الزيتون الذي غادره الفتى الفلسطيني، وهو ذاته الذي شكَّل شريان حياة الفلسطيني الذي مازالت جرافات إسرائيل تستهدفه منذ أن أدركت هذه الحقيقة "زيت الزيتون بالنسبة للفلسطيني هو هدية المسافر، اطمئنان العروس، مكافأة الخريف، ثروة العائلة عبر القرون، زهو الفلاحات في مساء السنة. وغرور الجِرار". هنا، ترك البرغوثي وراءه نرجسية الشاعر، وحلَّ في أرض النثر قريباً من ناسه، في بلده الأول "دير غسانة"، عاصمة البراغثة الذين يعدون أكثر من خمسة وعشرين ألفاً في (العاصمة) وجوارها، وهو يحاول تقشير الأسطورة من زوائدها تعريفاً بأصل التسمية: من أين جاءت نسبة البرغوثي؟ "المعتزون بالعائلة كانوا يقولون لنا إنه مأخوذ من البِرِّ والغوث. والمعتزون بالجاه والملكية قالوا إن جدنا الأول كان اسمه غوث، والأراضي الشاسعة التي امتلكها هو وأبناؤه أصبحت تسمى: بَرُّ غوث. وآل البرغوثي يقيمون في سبع قرى جبلية متجاورة تسمى "قرى بني زيد" ومركزها جميعاً "دير غسانة". التفسير المعقول.. لن يقنعهم: إنه نسبة إلى البرغوث.. شخصياً". بهذه البساطة المشحونة بخفة دم ريفية مطعمة بخبرة حياة المنافي، وبكثير من خفة الدم المصرية لجهة دراسته في القاهرة، وزواجه من الروائية المصرية رضوى عاشور بعد زمالة دراسية مديدة، يقدم البرغوثي في كتابه "ولدت هناك.. ولدت هنا" الصادر عن دار "رياض الريس للكتب والنشر"، يقدم لمن لا يعلم مثال الصبر في زوجته رضوى عاشور، حين رعت ثمرة هذا الزواج، تميم البرغوثي، ودافعت عن فلسطينيته حين وُلد فأصرت على أن يُسجلَ موظف السجل المدني في القاهرة في خانة الجنسية "فلسطيني" رغم أن مريد البرغوثي أراد وضع صفة "أردني" كونه لا يحمل سوى جواز سفر أردني. من هنا يذكر البرغوثي الأب رضوى في مواضع كثيرة في الكتاب. كما نجد صفحات كثيرة في علاقته بأمه، مع شح كبير في الحوادث التي يرويها عن أبيه، رغم أنه يقدره عالياً حين يأتي على ذكره. يقول البرغوثي "الآن لن أرى قدس السماء، ولن أرى قدس حبال الغسيل. لأن إسرائيل، متذرعة بالسماء، احتلت الأرض". الأهل والإخوة والأصدقاء توزعوا مهماتهم يذرعون جهات الأرض، بحثاً عن الهوية الضائعة، أو اختباراً لمستويات الحنين، ومكابدة آلام مفردات الوطن في عيون الآخرين، العيون التي طواها جوع إلى الأماكن العتيقة التي لم يرها الأبناء والأحفاد، فكيف بالآباء.. "الأزواج والأبناء والبنات توزعوا بين القبور، والمعتقلات، والمهن، والأحزاب، وفصائل المقاومة، وسجلات الشهداء، والجامعات، ومواطن الأرزاق في البلدان القريبة والبعيدة". وهؤلاء يبحثون عن هوية واحدة بطرائق تختلف باختلاف درجة الحنين، ومنهم من هو موجود في فلسطين، فدرجات الوعي تشبه تدرجات الجغرافيا، قرباً أو بعداً عن القدس، قرباً أو بعداً من البيت الذي يحتله المستوطن الصهيوني، ولا تختلف درجة وعي مَنْ لايزال يتمسك بأرضه، ولم يعان اللجوء، أو النزوح، عن وعي اللاجئ في فلسطين، أو في أية أرض أخرى، ماداموا كلهم يعيشون حالة موقتة (في نكبة 1948 لجأ اللاجئون إلى البلدان المجاورة كترتيب "موقت". تركوا طبيخهم على النار آملين العودة بعد ساعات! انتشروا في الخيام ومخيمات الزنك والصفيح والقش "موقتاً"!. حمل الفدائيون السلاح وحاربوا من عمان "موقتاً"، ثم أقاموا في تونس والشام "موقتاً". وضعنا برامج مرحلية للتحرير "موقتاً" وقالوا لنا إنهم قبلوا اتفاقية أوسلوا "موقتاً".. إلخ إلخ). ربما لا نغامر في القول إذا ظننَّا أن الأم حين تتحول إلى جدة، فإن الأم الشابة تصبح والدة لزوجها وابنها، والتفاصيل التي يقدمها مريد البرغوثي، مع قسوة شاعريتها، تضع على عاتقه وعاتق القارئ معاً حتمية ضم رضوى عاشور إلى قوافل الأمهات الفلسطينيات. وقد قدمت رضوى عاشور برعايتها الأب والإبن ما أكسبها فلسطينية مصرية نافست فيها الأم البيولوجية التي هيأت الإبن مريد كي يكون ما هو عليه، فألقى مريد بأحمال المنفى الفلسطيني على كاهل سيدتين عظيمتين كان محظوظاً بوجودهما في حياته. فهل تقل تضحيات رضوى وصبرها عما ينقله الشاعر البرغوثي في هذا المشهد المضحك المبكي لنساء فلسطينيات على حواجز الاحتلال، فعندما يهم الجندي الإسرائيلي بمضايقة شاب فلسطيني تندفع أكثر من امرأة في وقت واحد مدعيات أنه ابنهن، فينطق الجندي "روخي كذابة، كم أم لولد واحد؟ مئة أم لولد واحد؟ إمشي من هون. يالله!.. فتصرخ إحداهن في وجهه: أيوه. احنا هيك. الولد عندنا له مئة أم، مش مثل أولادكم، كل ولد له مئة أب!". لقد جعلت السياسة من اسم فلسطين، حتى الاسم، اصطلاحاً شفهياً لا يوجد على أي خارطة، أو وثيقة، للمنظمات الدولية (لأن المطلوب محو اسم "فلسطين" من الخريطة ومن التاريخ ومن الذاكرة، نسبت هذه المنطقة إلى نهر الأردن، فسميت باللغة العربية وبكل لغات العالم "الضفة الغربية". وهكذا اختفى اسم "فلسطين" نهائياً من كل خرائط الدنيا). لكن الدليل على وجود الفلسطينيين هم الفلسطينيون أنفسهم. وما يحصل لآل البرغوثي، كشاهد على ما يجري لكثير من الفلسطينيين الذين اختبروا "داء فقدان الهوية"، كوثيقة تميزهم، فهو ما لا يمكن أن يدركه سوى الفلسطينيين، كالصحة التي لا يراها سوى المرضى، ففي رحلة بين فرنسا وسويسرا تقف السيارة في النقطة الحدودية لدقائق أمام موظف الجوازات، فتجري الحادثة: "وجد بين يديه جوازات سفر من كل حدب وصوب: أردنية وسورية وأمريكية وجزائرية وبريطانية، ومن "دولة بيليز" أيضاً، وبأسماء تدل على أن أصحابها من عائلة واحدة؛ فالكل "برغوثي" بالإضافة لجواز سفر رضوى المصري وجواز سفر إميل حبيبي "الإسرائيلي".. وبعد أن يعفي الموظف نفسه من عناء فهم هذه الخلطة الغريبة، ويشير للسيارة بالمرور، يقول أحد رفقاء الرحلة "والله احنا فضيحة عن جد يا جماعة"! والسؤال المشروع هنا: ماذا لو كانت نقطة الحدود هذه بين بلدين عربيين؟! الجواب معروف، معاد ومكرر، فظلم ذوي القربى أشد مرارة!