تشابهت الأزقة وغاصت نظراتها في الأرض، كأنها تبحث عن أثر تركته خلفها، منذ أن خرجت من بيتها في الصباح الباكر لتشتري خبزًا من الفرن القريب من البيت.. صار الوقت ظهراً ولم تجد بعدُ طريقها إلى البيت، وانتابها العطش، كما داهمها قلق من الضياع.. - هل أستطيع مساعدتكِ؟ - أبحث عن بيتي! - هل تسكنين في الجوار؟ - في مكان ما هنا..لكني لا أجده! الشاب الذي وقف ليسألها لحَظَ أنها - منذ ساعات - تذهب وتجيء، دون هدف محدد.. ثيابُها نظيفة، وملامحها تنبئ عن أنها تنحدر من أسرة كريمة.. يستحيل أن تكون من النساء اللواتي يمتهنّ التسول.. عاد ليسألها مجدداً: - يا خالة.. أين تسكنين بالتحديد؟ تشرد بنظراتها في الطرقات والبنايات.. ثم تتنهد: - لستُ أدري ..كنت أقصد الفرن، لكني لم أجده، ولم أجد البيت.. - هل تحفظين عنوانه؟ .. رقمَ الهاتف لشخص يأتي ليأخذك؟ - لا .. لا.. لا أعرف.. أطرقَ يفكر ثم سألها: - ما اسمكِ يا خالة؟ - لا أذكر... رفع كتفيه بيأس، ثم تركها ومضى.. جلست على الرصيف بعد أن نال منها التعب ..تحاول أن تقتنص ومضةً من الومضات التي تبرق في ذاكرتها بسرعة الضوء وتختفي، لونَ بيتها الأزرق, النوافذَ التي تطل على الأزقة الضيقة، والفرنَ القديم على الناصية، ملامحَ أطفال صغار يركضون في باحة البيت، لا يرهقهم اللعب، ولا يبالون بالعرق الذي يتصبب من أجسادهم.. وملامحها؟ التفتت إلى الواجهة الزجاجية لتنظر إلى امرأة جالسة على الرصيف.. إلى جبينِها المتغضّن، ومسحةِ حزنٍ عميق في عينيها.. سألت نفسها: مَن تكون؟! تأملت ما حولها.. لا أحد سواها يجلس هنا.. تقف مجفلةً، وتبتعد نحو أقرب زقاق إليها، تتلمس الجدران الخشنة كأنها تتوسلها أن تضخّ في مسامات يدها بعض الذاكرة, تغمض عينيها وتستمر في المشي صعوداً ..صوتٌ ما من بعيد يشدها نحو هذا الطريق تحديداً, تنفرج أساريرها رويداً, رائحةُ خبز طازج.. تسرع الخطى وحواسُها متيقظة نحو كل حركة أو شخص يمرّ بها، تهمس لنفسها: - لن أفتح عينيّ إلا أمام بيتي.. إنها الطريق إلى الفرن... يدٌ صغيرة تتسلل إلى يدها وتمسكها بحنو: - جدتي.. أين كنتِ؟ .. بحثنا عنكِ منذ ساعات.. تنظر إلى الصغيرة بريبة: - من تكونين؟ .. أنا لا أعرفك.. أين بيتي؟ تركض الصغيرة وهي تنادي والدها: - وجدتُها.. إنها هنا، لكنها -كالعادة - لم تتعرف عليّ! أسرعْ يا أبي قبل أن تختفي!! - عبدالله بن سُنكر [email protected]