المرء بأفعاله وآثاره، فكم هم الماضون ولكن ذكرهم لا يدوم، غير أن أصحاب المقامات بين أولئك كواكبٌ ساطعات، لا يغيب ذكرهم، ولا يطوى سجلهم، إذا خمل اسمهم أضاء فعلهم. في الأرض أجسادهم، وفي الآفاق آثارهم، عرفوا الله في السراء، فتولى ذكرهم في الضراء {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ} (119) سورة الصافات. إنهم ورثة الأنبياء، حملوا الرسالة فنالوا علوّ المكانة، وبلد الحرمين وهي ترزأ بأحد الأفذاذ، شيخ المحراب، ومزمار القيام، صاحب صوتٍ ندي، وأشرف تمني، الشيخ محمد أيوب إمام المسجد النبوي رحمه الله، إنه ذو الصوت الفريد الذي لم يحاكِ فيه تقليد، دوى صوته في الآفاق، وترنّم في الأصقاع، صوتٌ شجيّ، علا المآذن، وصدح في أروقة المدارس، وتعلّم على طريقته الدارس، يستيقظ على صوته الهاجع، ويتلذذ به الراكب، نبراته تقمع المارد، وتفيض بها المدامع، إنها تلاوة تأسر المشاعر. كيف وكان شدوه وترنمه في أشرف مكان بجانب سيد الأنام، صاحب القرآن والنور والبرهان. إنه ليذكرك خلال تلاوته بشرف المدينة والصلاة والسلام على سيد الأنام. كفاك شرفاً أن تنتصب في محراب مسجده صلى الله عليه وسلم، وتقتفي أثره، وتلتزم سمته، غير غالٍ ولا جافٍ. وقد أحاط بك روضةٌ من رياض الجنة، ومنبر على تُرعة من تُرع الجنة، إنها جنان فأبشر برفيع المقام. وصدق صلى الله عليه وسلم :(إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) رواه مسلم. هي والله منية أهل النفوس الشريفة، وأهل الهمم العالية، مع ما يجب له في النفوس من الاحترام والتوقير (إن من جلال لله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي، وذي السلطان المقسط) رواه البخاري في الأدب. حتى بعد الموت يقدم حامل القرآن في اللحد على من هو دونه، رفعة في الحياة والممات. سار على وصية الشارع (أحب الأعمال إلى الله الحال المرتحل) رواه الترمذي. فصاحب القرآن ما إن ينتهي من أوله إلى آخره حتى يبدأ بأوله، كلما حلّ ارتحل. همّه القرآن، وإنها سنة السابقين، قيل لابن مسعود :(إنك لتقلّ الصوم، قال: إنه يضعفني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إلي). وتمنّى مجاهد بن جبر عند موته أن يقرأ القرآن في قبره محبة لتلاوته. ومن هبة الله للقارئ أن يزينه بحسن الصوت، فيجمع خصال محبوبة (ما أذن الله لشيء كأذنه لنبيّ يتغنى بالقرآن يجهر به) رواه البخاري. وإن الملائكة لتدنوا لاستماع التلاوة كما وقع لأُسيد بن حُضير إذ كان حسن الصوت. والشيخ أُوتي صوتاً حسناً يتغنّى به في إمامة القيام، فتسابق إليه المصلون، حباً لسماع مزماره وتطريبه، وتسجيلات القيام 1410 تكشف ذلك. قال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى :(لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود). فالتغنّي الحسن يزيد في الأثر فيكسب القلب الوجل ويستحضر التدبر. ومن العجب أنه هُدي لحسن التمني فصدع بأمنية تخالف الأماني إمامة بالمسجد النبوي مع عظيم المسؤولية، حنيناً لهدي النبي صلى لله عليه وسلم، وطمعاً أن تشمله رحمته، فأدرك مناه وتغنى هناك. والمنى الإيمانية تكون من نصيب أشرف الناس، لأنه بمضي عمره بالطاعات ينبه إلى قرب الأجل ليزداد في العمل، فقيامٌ بمسجد المصطفى تعلو على غيرها عدة وعدداً. وهذا ديدن أهل الإيمان يرغبون في الوفاة بعد عملٍ صالح، فالأعمال بالخواتيم، فهنيئاً لمن رحل ومعه شهادة البشر، وشفاعة كتاب مطهر. وبعد سنوات حافلة مع القرآن تعلّماً وتعليماً وشدواً في الأرض وفيافيها، يترجل مجيباً نداء ربه ليلتقي بمن سبقه من صفوة الأبرار، في الحديث :(أهل القرآن هم أهل القرآن وخاصته) رواه أحمد. انتقل إلى ربه بكامل حواسه ومداركه، حماية من الرحمن لحفظه رسالة الإيمان (يا غلام احفظ الله يحفظك) قال بعضهم: (من حفظ القرآن يُمتع في عقله) فعقول أهل الإيمان الربانيين صافية وافية. إنها فضائل متواصلة في الدنيا والآخرة، يُقال له هناك (اقرأ، وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) رواه أبو داود. في الجنة درجات بعدد آيات الكتاب، ولذا قيل من اتقى ارتقى. إنه وبإذن الله وبشهادة رسول الله مع الملائكة السفرة، فالماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة. وبرحيله، وتسجية ضريحه، تطوى صحائفه العمرية، وتبقى سجلاته العلمية، وموروثاته الإيمانية، تُحيي ذكره، وتُعلي منزلته، وتحفر في التاريخ رسمه، فهو معنا وإن ضمّت الأرض جسده. وما تلك الجموع الطائلة المتهافتة لتشييعه إلاّ علامة قبول، وإنه في القلوب، وأثره سيدوم ما دام القصد موجود، قيل ما كان لله يبقى. اللهم ارحم العالم الناسك، والبار الصادق، الشيخ محمد أيوب، وارفع مقامه مع عبادك الصالحين، آمين.