لم يعد هناك ما يخشاه هذا الرجل الذي ملأ الهامش حتى صار متنًا. ركض في هذه الحياة كسيل جارف، ابتعد واقترب من كل أحلامه البسيطة، كتب ما كان يجب أن يُكتب، وأطلق - بعفوية الذي يتسلل الحب إلى أوردته - سراح كل القصائد الذابلة لتتفتح في منطقة دافئة. ظل يطارده الهامش، وكأنه ظل آخر يحتمي بظله. هم هكذا دائماً سكان الأماكن التي تقع خارج خط الضوء.. يزينونها لتكون وطنًا في الظل.. يكتبون أحداثهم بتفاصيل قليلة حتى لا تنسى. من هناك جاء الدكتور «سعيد السريحي».. من تلك الأماكن التي لا تعرف من الحياة غير طرف المدينة باتجاه الشمال. يصف نفسه بتلقائية فيقول: لا أنا بالبدوي الذي مشى حافيًا فوق رمل الصحراء، ولا بالحضري الذي أغواه مساء المدينة! وجدت نفسي بين بادية تحتضر ومدينة أغلقت عليها أسوارها.. فبقيت على «هامش» مكان في طرف المكان، من أجل أن أحصل على فرصة أخرى للحياة. فكان المكان هو «الرويس». لم يستسلم لظل الهامش الذي كان يحاصره.. استطاع أن يؤثثه بكل التحديات، أن يجعل منه مسرحًا حقيقيًا لصوته الشجي كربابة عاشق، أن يصنع منه أرجوحة للقصائد التي يكتبها كلما أناخ راحلته. كبر كثيرًا من أول تجربة خاضها. اكتشف أن في الحياة أقنعة.. ومسارات ملتوية.. وأصدقاء لم يكونوا يومًا أصدقاء. تعلم الدكتور سعيد مبكرًا أنه لا يوجد شيء يخسره عندما تخلص من كل «التماثيل الصامتة» وقت كان في أمس الحاجة لأحد ما يقف خلفه.. حتى ولو كان وقوفًا هامشيًا. فضلوا النجاة على أن يشاركوه السباحة في محيط (الحداثة) الساخن.. المصير الأهم في حياته منذ الخطوة الأولى. لا نعلم.. قد يكون لديهم ما يبرر صمتهم، ولكنها كانت بداية الحياة بالنسبة للسريحي، فكيف يبدأ المشوار بخطوات مهزوزة، وصمت يقتات على حباله الصوتية، وضمير قزم؟ الشاب الذي كانت تبدو عليه الملامح الهادئة كنخلة تقف تحت الشمس، لم يغمض عينيه ليعبر. لم يلتفت للضفة الأخرى من أجل الحصول على مساحة كان يتمناها في «جامعة» حملها في قلبه حتى بعد أن أوقع به بعض من فقدوا داخلهم صوت الضمير الصادق، فسلبوه درجة علمية يستحقها بشهادة كل المنصفين. لقد كان هناك من يتربص به في الظلام، يريد أن يدفع به إلى هامش جديد يخنق صوته.. ولكنه من غير قصد قدمه للنور، وللهواء كي يملأ رئتيه. لم يتقن فن عقد الصفقات مع الحياة لتفتح له ذراعيها.. كان يؤمن بصدق أن الأقدار هي من تأخذه في مركبها، فلم يكن يخشى الغرق وحيداً. حتى وهو يغادر «الحي العتيق» ظل محتفظًا برائحة الطرقات القديمة.. يعود بعد كل شتات يتجول قريبًا منها. يستمع لصوت والده الذي كان يقرأ بصعوبة آيات من مصحفه، ويشعر بيد أمه تمسح على صدره وكأنها تطمئنه من شيء لا يعلمه. قدر السريحي أنه عاش مرحلة زمنية تجرأت على الإرث القديم. تجاوزت عقليات حراسه.. وبدلت جلدها. كانت مرحلة مليئة بالمطبات، ولكن السريحي كغيره أراد الخروج من النفق. الاختلاف الوحيد أن السريحي كان صوته مدويًا. كان لا بد عليه أن يعبر الجسر وأن يقذف بحجر أسفله، وأن يتساءل بصوت مرتفع: لماذا كنا هكذا وإلى أين نسير؟ السريحي.. عبر الجسر بكامل (أبهته).. ظل محافظًا على أعماقه الجميلة دون تلف. انتصر في أماكن عدة، وأصابته سهام كثيرة في مواضع أخرى، ولكنه كان دائماً يشعر أنه يقترب من الحقيقة أو يوشك على ملامستها. اليوم هو يسير في الزحام مطمئنًا لدرجة الرضا، يكتب ليصنع الدهشة لنفسه والآخرين. يوقد سراجًا والشمس في منتصف النهار.. يشاكس بلطف.. لا يتصنع غير ذاته النظيفة بالفطرة. ولكنه لا يزال يتذكر أن الثمن كان باهظاً. يردد الكثيرون سرًا وعلانية، أنه من حسن حظنا جميعًا حرمانه أو ابتعاده عن الوظيفة الأكاديمية. فهذا الحرمان منحه فرصة كبيرة للتحرر من قيود التبعية، والانطلاق إلى عوالم أكثر رحابة. وهذا ما حدث له بالفعل عندما تفرغ للعمل الصحفي وقدم له كل حياته. العمل الصحفي قرّبه من المجتمع.. جعله يستقبل من الناس مباشرة.. أن يلتقي بهم من خلال همومهم اليومية كإنسان، بعيدًا عن نخبوية المنصب واللقب. الصحافة كانت حضنًا دافئًا، ويدًا ضمدت حزنه الذي لم يفارقه، الحزن الذي كلما ابتسم شعّ من عينيه كبرق ليلة شتاء لا دفء فيها.. حزن مهما حاول تجاهله إلا أن مذاقه المالح يظل عالقًا في جوفه. وبعد هذا المشوار الحافل.. المتداخل في أروقة حياته (شاعرًا، وناقدًا، وصحفيًا). يحق لنا أن نقف إلى جواره وأن نضع له فوق الطاولة صورًا له بأعمار متفاوتة.. ونسأله بهدوء.. ماذا تبقى من الدكتور سعيد ليكمل به الطريق؟ هل تبقى الشاعر الذي أرعبته فكرة أن يكون شاعرًا ولازمته طويلًا؟ هل ما زال يرى أن النقد أعطاه المقدرة على التهرب من تلاطم أمواج الشعر الذي فقد الود معه في منطقة مجهولة؟ يقول ساخرًا إن الشعر يحتاج إلى براءة، وهو بعد كل هذا العمر فقد البراءة التي تحتاجها القصيدة. يبدو أنه ترك براءته تلهو في منزله القديم، قريبًا من الهامش الأول. ماذا تبقى من صاحب الآراء الحداثية والجدل المثير و(الكتابة خارج الأقواس)؟ أم أنك أجبت واختصرت الطريق علينا عندما قلت: ليس مهماً أن يبقى الحداثيون كأشخاص.. أنا ما كنت أراهن على الأشخاص.. الرهان دائماً على الفكر، والعقول المتفتحة التي ستخرج في يوم ما من منطقة العتمة أكثر توهجًا. ما الذي تبقى من تعب الطريق يا دكتور قبل أن نمضي وندعك تفتش في دفاتر العمر؟ جرب أن تختار صورة واحدة تشبهك. صورة جمعتك داخل أربعة أضلاع متساوية في الطول والعمر ولحظات السعادة. المهم أن يظل داخلها (السريحي) الذي حمل معه كل ذلك الخليط الإنساني، أن يظل الشاعر الذي أخرج لنا من جيبه قصاصة كتب عليها: نمضي .. وتأخذنا البحار رهينة الملح للشمس الغريبة سائل من فوق جبهتها لهاث الموج للريح واقفة تخثر نبضها لتعفن الخشب الذي التصقت به أجساد من فقدوا توازنهم لقيء من دوار البحر دود أبيض ينسل قد ورث السفينة والمسافر والشراع. - محمد أحمد عسيري