تعد فئة الشباب من أكثر الفئات الاجتماعية تعرضاً للانحرافات، والانحراف الفكري من أخطرها وأشدّها ضرراً على الفرد والمجتمع، وتظل حماية العقول من الانحرافات الفكرية أهم من حماية الأجسام من الأوبئة وذلك لأن انتماء الشباب إلى جماعات منحرفة سلوكياً عادةً ما تعطي فرصة لمحاكاتهم فيما يقومون به من أفعال تؤدّي إلى التأثر المباشر عليه وعلى مجتمعه ووطنه. ولا شك أن هناك ثمة متغيرات اجتماعية من عوامل وظروف ومؤثرات يكون لها انعكاسات مباشرة أو غير مباشرة قد تؤدي إلى الانحرافات. «الجزيرة» التقت بعدد من ذوي الاختصاص ممن لهم اهتمامات بقضية الانحرافات الفكرية في المجتمع، ليقدموا الطرق لتحصين المسلم من الانحراف الفكري ومعالجته. تحصين النفس يقول الدكتور عبدالعزيز بن سليمان الغسلان عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة حائل أن نعمة الهداية للإسلام والسنة أعظم نعمة، فمن وفق لها فعليه أن يحافظ عليها بالبعد عن كل ما يشوبها. وبالشكر تدوم النعم وتزداد. وإن مما يهم التأصيل له والتذكير به - في هذا الوقت خصوصا- كيفية النجاة من الفكر المنحرف وكيفية معالجته. لأن الواجب على المسلم أن يحصن نفسه من فتنة الشبهات، حتى يسلم له دينه وعقيدته فيعيش سعيدا مطمئنا بعيدا عن الحيرة والتخبط. وهذا التحصين والمعالجة يكون بالاعتصام بالكتاب والسنة، لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه) أخرجه مالك في الموطأ وغيره. ومن أعظم الأسباب المعينة على التحصين والمعالجة في هذا المجال: الحرص على طلب العلم الشرعي والتأصل فيه على يد العلماء الربانيين الذي مشوا على طريقة علماء أهل السنة والجماعة قديما وحديثا، والذي يقوم على الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة بفهم السلف خير القرون. فإن هذا من أعظم الأسباب المعينة في التحصين من الانحراف بكل أشكاله، ففي العلم الشرعي نور وهداية وبرهان ووقاية. لذلك وضح الرسول صلى الله عليه وسلم خطر الجهل وهو ضد العلم فقال: (إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج والهرج القتل) متفق عليه. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) أخرجه البخاري. فانظر ما للجهل من أثر كبير في الضلال وانتشار القتل وغيره من الفتن. فعلم من هذا أهمية طلب العلم الشرعي، وأثره الكبير في التحصين والمعالجة من الانحراف الفكري. فتنة الشبهات ويضيف د. الغسلان قائلاً: ومن الأمور المهمة في جانب التحصين والمعالجة في هذا المجال: البعد عن مواطن فتن الشبهات التي تثير الشبه المضلة عن الصراط المستقيم من مواقع تواصل اجتماعي، أو معرفات مجهولة، أو مواقع إلكترونية أو قنوات فضائية أو مؤلفات وكتب ومقالات، أو غيرها من وسائل الحصول على المعلومات، فإن هذا من أعظم الأسباب في حفظ الإنسان من الوقوع في فتن الشبهات. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}, يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله - في تفسير هذه الآية: «أمر الله رسوله أصلا وأمته تبعا، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل، والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره، فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور.) ا.ه فهذه الآية تدل على أنه يجب اجتناب كل مجلس يقع فيه خوض في آيات الله ومن ذلك البدع والضلالات، ويدخل في حكم المجلس المصادر المتعددة للوصول للمعلومات من الوسائل الحديثة للتواصل والاتصال. ومما يدل على وجوب الابتعاد عن مصادر فتن الشبهات: قوله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال فلينأ عنه، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فلا يزال به حتى يتبعه مما يبعث معه من الشبهات» (رواه: أحمد وأبو داود) فهذا يدل على أنه يجب على المسلم أن يبتعد عن كل ما يدخل عليه الفتنة في دينه، ومن ذلك هذه المصادر الحديثة للمعلومات من رسائل جوال أو بريد الكتروني أو تويتر أو مواقع الكترونية أو قنوات أو غيرها. فعلى المسلم أن يحصن نفسه وأسرته من زوجة وأبناء وبنات، بالبعد عن مصادر فتن الشبهات، مع الاستعانة بالله جل وعلا والدعاء، وبذله لغيرها من أسباب السلامة من الفتن. وإنما نبهت على هذا السبب، لأن كثيرا ممن ضل وانحرف كان بسبب تساهله فيه، فصار يدخل لهذه المواقع، أو يتابع تلك التغريدات، أو تلك المقالات، أو المقاطع الصوتية أو المرئية، فدخلت عليه الشبهات فضل في دينه، لأنه حام حول الحمى فوقع فيه بسبب فعله وتساهله. وسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يرزقنا الاستقامة على دينه، وأن يجعلنا ممن هدي للصراط المستقيم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وأن يحفظ المسلمين من الانحراف في دينهم، وأن يرزقهم الوسطية والاعتدال، وأن يكفيهم شر الغلو والتطرف، وأن يهدي ضالهم ويرده للحق ردا جميلا.. إن ربي سميع الدعاء. آمين آمين آمين. تطبيقات مهمة ويشير الدكتور عادل بن محمد العُمري أستاذ الدراسات ا?سلامية المساعد بجامعة القصيم إلى أن الاعتدال الفكري منهجٌ وسلوك فليس الاعتدال مجرد دعوى، أو مجرد كلمةٍ تقال؛ إنما هو أقوالٌ وأفعال، فليس من المفيد أن ندَّعي الاعتدال أو ندعو للوسطية ثم لا نترجم تلك الدعاوى بتطبيقات حقيقية للمنهج الوسطي المعتدل، تلك التطبيقات والأفعال هي من مسؤوليات المؤسسات الشرعية بجميع مجالاتها وفروعها وكذلك هي من مسؤوليات المؤسسات التعليمية، وبيان ذلك من خلال النقاط التالية: 1. من إشكاليات مؤسساتنا الشرعية والتوعوية والفكرية نقد تصرفات الحركات المتطرفة الهمجية كعمليات القتل والتفجير، لكنها في الوقت نفسه لا تُعنى -كثيراً- بنقد الأفكار التي تحملها تلك الحركات المتطرفة؛ فالنقد هنا يذهب للتطبيق دون الأفكار التي أبرزت ذلك التطبيق، فالأفعال نتيجةُ الأفكار، وإدانة الأفعال = (الجرائم الإرهابية) دون النظر في جذورها ومسبباتها لا يسمنُ ولا يغني من جوع، وحينما تكون شجرةُ الزقوم ذات الطعام القاتل والرائحة الكريهة مثمرةً فبالطبع أن يكون طلعُها كأنه رؤوسُ الشياطين. 2. يجب على مؤسساتنا اعتماد منهج فقه الاختلاف في تعاطيها الفكري والفقهي مع المختلف، فمن مشكلات مؤسساتنا: عدم وجود رؤية تربوية إيجابية في التعامل مع المختلف فكرياً ناهيك عن الاختلاف المذهبي والديني، كذلك عدم الإدانة الصريحة الجادة لمفتعلي أشكال العصبيات بأنواعها، كذلك إشكالية الأخذ برأي عددٍ قليلٍ من الفقهاء واعتبار اجتهاداتهم نهائية وصائبة، وعدم العناية بالآراء العلمية الفكرية والفقهية الأخرى المختلفة مع تلك الاجتهادات. 3. خطبة الجمعة، هل لخطبة الجمعة - اليوم- دورٌ ظاهرٌ في معالجة الانحرافات الفكرية ونبذ الغلو والتطرف؟ هل لخطبة الجمعة دورٌ ظاهرٌ في تعزيز مفهوم المواطنة الصالحة؟ هل لخطبة الجمعة اليوم دورٌ بارزٌ في حلِّ مشكلاتنا الفكرية المعاصرة كمعالجة مشكلات التطرف والطائفية والعنصرية؟ ماذا صنعت خطب الجمعة المعاصرة لتعرية تيارات الغلو والتشدد؟ إننا نجد كثيراً من الخطباء من يعمِّق التشدد والغلو فيدعو على من يختلف معه فكرياً ويدعو كذلك على أتباع الأديان والمذاهب مما يعزز لدى مستمعي الخطبة لغة الكراهية والاحتقان ضد الآخرين، ومما يعزز فكرة الانتقام من المختلف فكرياً؛ علماً أن ذلك ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة، بل الثابت عنه أنه اقتصرَ في دعائه من على منبره على المعتدين فقط. 4. تفتقد مؤسساتنا الشرعية والتعليمية لكثير من الأبحاث العميقة المتجردة في موضوع الوسطية التي تنشد الحقيقة وتبحث في الجذور والأسباب الرئيسة للغلو والتشدد والإرهاب دون مواربةٍ أو مجاملةٍ لأحد، ودون النظر لرغباتنا وتوجهاتنا ولما هو سائدٌ في مجتمعاتنا التقليدية. 5. هناك قصور شديد في ترسيخ كثير من المفاهيم الفكرية تبعاً لإغفال المؤسسات الشرعية والتعليمية الجانب المقاصدي لفهم الشريعة الإسلامية، فمع الأسف حين لا نقرر في دراساتنا -مثلاً- أن الأصل في دم غير المسلم هو الحل وليس الحرمة، ومع الأسف - أيضاً- أن يقرر البعض بأن الأصل في سبب الجهاد هو الكفر وليس وجود الاعتداء على المسلمين أو ظلمهم واضطهادهم دينياً وبهذا ينتفي الجهاد مع وجود حرية الممارسة الدينية وذلك باعتبار النظر في مقاصد الشريعة بعيداً عن الاعتبارات الحزبية الحركية المعاصرة وبعيداً عن الموروثات الاجتهادية غير المقدسة الملزمة، وذلك باعتبارها إرثاً اجتهادياً يحقُّ لنا نفضه ونقضه. علينا ألا «نتكاسل» أو نتقاعس عن مواصلة تصحيح مثل تلك المفاهيم بكل جرأةٍ وجديةٍ وحزم وبخاصة أننا في عهد الحزم والعزم عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يحفظه الله. معدلات خطيرة ويؤكد الشيخ محمد بن عبد العزيز المطرودي الداعية في منطقة نجران أن في العقود القريبة الماضية اتسعت مساحة الانحراف الفكري، بمعدلات خطيرة وعلى مستويات مختلفة، ولو استعرضت مشكلات المجتمع، وتصفحت مواقع التواصل الاجتماعي ما أخطأت هذا الأمر المفزع!. وهذا واضحٌ وجلي فيما يخص القضايا المتعلقة بالأمة حتى أصبح من يدعو للحكمة والصبر والتروي والدعوة التي هي أحسن متآمرا في نظر من قلَّ صبره، ولم يستوعب المسافة الهائلة بين القرون المفضلة وبين عصور كتب على أهلها أن يعيشوا في موجٍ متلاطمٍ من المعوقات، يستوجب فهم السنن الربانية عندما تتباعد عن زمن النبوة. إنَّ علينا واجباً تجاه ديننا ألا نحمله أخطاء اجتهاداتنا، وآراءنا الخاصة، وألا نحتكر فهم الشريعة في رأينا، وعلينا مسؤولية تجاه بلادنا ووطننا أن نكون صادقين في مراجعة أساليبنا الدعوية، والفكرية، وفهم الطبيعة الاجتماعية والنفسية المتباينة في عالم متداخل، وضبط كل هذا بمعيار القرآن الكريم، والسنة النبوية، والمنهج الاستدلالي في الأصول والقواعد الفقهية.إن المراجعة الموضوعية الجادة والشجاعة تمنح الأجيال الثقة بأن الحق هو الغاية التي تعقد من أجله الحوارات والمؤتمرات حفظاً للشباب من الوقوع في مآزق الانحراف الفكري والسلوكي، وتوجيهاً لطاقتهم في الدعوة والبناء والإصلاح والتنمية والمشاركة في الحياة العملية بكافة صورها، وحفظاً للأمة كافة من التشرذم والتشتت, والصراعات الداخلية. إن الغلو والتشدد هو أحد أشهر الانحرافات الفكرية القديمة والجديدة، سفكت بسببه الدماء المعصومة، وانحل به عقد السلم الاجتماعي، وتداعت وحدة الصف، وأصبحت الدم القاني هو الحَكم عندما يخالف مخالف!. وللإسلام منهجه المتفرد في تحقيق الأمن الفكري، فهو يهتم بالجوانب التربوية والوقائية التي تمنع وقوع العنف أصلًا، كما يهتم بالجوانب الزجرية والعقابية، التي تمحو آثاره، وتمنع من معاودته وتكراره، ولا يمكن حصر الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار، في مقالة أريد لها أن تكون مختصرة. ولكني أبين أن ظواهر النصوص الشرعية دلت على أن ضلال الخلق على كثرة صوره وأنواعه، وتعدد مظاهره وأشكاله، سواء كان في الأفكار والتصورات، أو الأخلاق والسلوكيات، أو الأعمال والممارسات، يعود في حقيقته إلى سببين رئيسين:الأول: الجهل والعمى، والثاني: الظلم و الهوى. فالجهل والظلم هما أصل كل شر، كما قال سبحانه {وَحَمَلَهَالْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} وقد يُؤتى الإنسان من قبل جهله من وجه آخر، حيث يظن أن فعله هذا مبارك مشروع، وصاحبه مأجور مشكور، وليس الأمر على ظنه وحسبانه في الواقع، كمن يظلم كافرًا أو فاسقًا، ويتعمد الإساءة إليه بالقول والفعل، وهو يظن أن عمله هذا قُربة يرفعه الله بها درجات، ويجهل أن الظلم حرام في حق كل أحد، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، برًّا أو فاجرًا، وأن فعله هذا من الصد عن سبيل الله، والظلم لعباد الله، وكلاهما حرامٌ بأدلة الكتاب والسنة. ومما سبق يتبين لنا أمران مهمان: الأول: ضرورة معرفة الحق؛ ولأجل هذا حث الله تعالى على طلب العلم النافع والاستكثار منه، وأثنى على العلماء، وبين عظيم فضلهم ورفعة مكانتهم، ووردت كذلك أحاديث كثيرة تبين فضل العلم والعلماء، وأنهم ورثة الأنبياء في معرفة الحق والعمل به، وفي حمل هذا الدين وتبليغه للعالمين، وهي آيات وأحاديث معلومة فلا نطيل بذكرها. الثاني: وجوب الحذر من الأئمة المضلين، والجهلة المتعالمين، والمتصدرين للفتوى وليسوا من أهلها، ولهذا أمرنا الله - تعالى - بسؤال أهل الذكر فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. وأهل الذكر هم العلماء الراسخون، الذين شهدت لهم الأمة بالعلم والإمامة في الدين، أما أدعياء العلم، وأنصاف المتعلمين، والمتطفلون على موائد العلماء، فليسوا أهلًا لأن يستفتوا ويصدر عن رأيهم، وخصوصًا في الأمور العامة التي تمس مصالح الأمة. وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من أمثال هؤلاء فقال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» وهذا يتضمن التحذير من ترئيس الجهال، وقعود العلماء الراسخين عما أوجبه الله عليهم من البلاغ والتبيين، وفيه التحذير من استفتاء أدعياء العلم وأنصاف المتعلمين، ومن يتصدرون للفتوى، وهم في الحقيقة جهال أدعياء، فيَضلون ويُضلون، ويتحملون أوزارهم وأوزار من يضلونهم بغير علم.