كان الطريق طويلًا وشاقًا لا يحتمله رجل تجاوز الثمانين من عمره. والطرقات التي تركض بأصحابها إلى الأعلى مزاجية.. سريعة المراوغة والانزلاق من تحت الأقدام.. لا تبالي بالأجساد المتعبة. وعلى ما يبدو أنها فعلت ذلك مع الفيلسوف والروائي الإيطالي (أمبرتو ايكو) الذي ودع عالمنا بعد أن أضاء الكثير من الشموع ، وغرس «وردة» فوق جبينه. الأجساد أحيانًا تخذل أصحابها.. تنهار في منتصف الطريق وكأنها تعلن احتجاجها الأخير. أمبرتو الإيطالي الذي ولد في مدينة (ألساندريا) عاش حياته تحت مظلة الفاشية كأي شاب في عصره.. كان يعتقد أنها الأجمل دائما.. ولكنه اكتشف فيما بعد أنها سراب. ولد إيكو لمحاسب ميسور الحال استدعته الحكومة للخدمة في ثلاثة حروب.. وهذا ما جعل الابن يكثر من طرح أسئلته عن جدوى الحرب والموت وغياب الآباء. لقد كان رهانه على الخاسرين دائما. يكتب عنهم لأنه يعتقد أنهم الأصدق.. لا يحتاج لكثير من الجهد ليصل إلى أعماقهم.. فكل شيء ظاهر عليهم دون عناء ، لأنهم الأكثر سحرًا من وجهة نظره.. بينما يرى أن المنتصرين هم جماعة من الأغبياء جل انتصاراتهم جاءت مصادفة. في بداية حياته حاول أن يخرج من لعبة الرهانات الخاسرة، فلجأ إلى قبو منزل جده عامل الطباعة، حيث الكتب التي تركها داخل صندوق خشبي كبير. الإرث الذي لم يسأل عنه أحد كان الوقود الذي دفع بإيكو أن يعبر الأفق وينظر من أعلى نقطة لهذا العالم الذي بدا له مختلفًا عن كل التصورات الضيقة التي نشأت معه. يقول عن رحلته عن القراءة في القبو (بدأت أنزل إلى القبوكثيراً، لأطالع مجلات الرحلات والمغامرات المصورة، وانهمكت في قراءة قصص عجيبة، تحدث في بلاد غريبة، كانت هذي هي رحلتي الأولى إلى أرض القصص). كان شغوفًا بالعلاقة بين الحقيقة والخيال وكأنه يطارد خيطًا رفيعًا بينهما لا أحد يشاهده سواه. الخيال الذي نهرب إليه كلما أعاقنا العجز عن مواصلة السير، والحقيقة ذلك الامتداد الذي نعيشه ونلمسه من فعل لآخر. لقد كان يؤكد على أنه إذا أردنا اكتشاف الحقيقة فإنه علينا أولًا أن نحذف الأشياء المزيفة والمخادعة لتظل الحقيقية. عازف البوق الذي كان يعزف وحيدًا في «ميلانو» ليلة رأس السنة الأخيرة في حياته لم يكن يعلم أنها مقطوعة الوداع. وهو على ما يبدو حالة من ترابط الخيال بالواقع الذي طالما نقب عنه في صفحات كتبه التي كان يعيش معها. نعم لقد كان طريقًا شاقًا أيها العجوز..! لم يمنحك المرض فرصة أخرى لتنهض من فراشك لمشاهدة التلفاز ومتابعة مسلسلك المفضل. لقد كان كل شيء حقيقيا هذه المرة .. لم يكن قصة تحاول ترميم أحداثها. إيكو .. هذا اللقب الذي حمله «جده» اللقيط، والذي يعني «هبة السماء» ارتبط بالحفيد، فهو لم يكن شخصًا معروفًا حتى سن الخمسين عندما قرر أن يصبح روائيًا ويكتب روايته الأولى «اسم الوردة» عام 1980. إنها الأقدار التي حركت حياته وجعلت منه اسمًا لامعًا في عالم الرواية. وبين الرواية الأولى حتى «العدد صفر» آخر أعماله الروائية عام 2015 كانت حياة حافلة، وربما هنا مفارقة جديدة في حياة الفيلسوف الإيطالي.. وكأنه أراد أن يختار الصفر كنهاية تنازليه لمسيرته من حيث لا يقصد. ولكنه ترابط خفي بين الواقع وخيال العقل الباطن الذي كان يلح عليه.. وكأنه يسكب من الخيال في وعاء الحقيقة دون أن يبحث عن مبررات لنصوصه التي كان يرى على أنها سيرة بشكل أو بآخر لأنه يمنح كل شخصية جزءًا من ذاكرته الحقيقية. يقول عن العمل الإبداعي ( أعتقد أنه ليس على القاص أو الشاعر مطلقًا أن يقدم أية تفسيرات لعمله، فالنص بمثابة آلة تخيلية لإثارة عمليات التفسير. وعندما يكون هناك تساؤل بخصوص نص ما، فمن غير المناسب التوجه به إلى المؤلف) . وماذا بعد يا أمبرتو ؟ لا كتابة مجددًا في نهاية الأسبوع كما كنت تفعل. كرسيك الخشبي الواسع سيظل فارغًا كقارب قديم مطمور بالرمل الأبيض. وأوراقك الصغيرة المثقلة بالأفكار.. ستجد فرصة للتحرر من وعودها عندما تجد سبيلها للريح. لقدكنت تقول دائمًا أنك ستتوقف عن الكتابة لو لم يكن هناك من يقرأ لك. والآن أنت توقفت مرغمًا بسبب الموت.. الحقيقة الأبدية. لم يعد هناك ما يغريك بعد اليوم لتنهض باكرًا من أجل تدوين ملاحظاتك.. و من سيعزف للبوق كي يكف عن سؤاله عنك؟ ولكن لا تخف.. سيقرأ لك الكثير حتى وإن لم توقع لهم على الصفحة الأولى وتكتب لهم (مع حبي). الذين كنت تعتني بهم وأنت تغوص في فصول أعمالك، والحزن الذي كان ينتابك بسبب أنك أوشكت على الانتهاء من رواية كنت تكتبها، وتحاملك على متاعب العمر هذه أسباب كافية لجعل عشرة قراء على الأقل يظلون أوفياء لك.. ولذاكرتك .. ومذكراتك.. وأقلامك.. للبوق الذي كنت تنفخ فيه الكثير من الأسرار والحكايات.. ولسنواتك (84) ا لتي انتهت في وقت متأخر من مساء الجمعة 19 فبراير. - محمد أحمد عسيري [email protected]