توفي قبل أيام فيلسوف رائع اسمه "أمبرتو إيكو"، اشتُهر كروائي لكن مسيرته بدأت قبل الرواية؛ إذ لم يدخلها إلا بعد شهرته العلمية في علم الجمال.. في لقاء قديم معه سُئل عن سبب كتابته للرواية فأجاب بأنه كتبها لأسبابٍ ثقافيةٍ خارجة عن إرادته كما يحدث وقت التبوُّل! ثم عاد ليتكلم عن هذا التصريح الذي أثار ردة فعل عارمة، بأنه لو قال: "رغبة ما حركتني لكان مقبولا أكثر"! نعم.. يمكن أن تؤثر ردة فعل الآخرين على أكثر الأشخاص علما بالكلام وطرائقه.. لكن المفارقة لا تخفى في كلامه، إذ فسَّر تلك الرغبة بأنها موجودة لدى كل الناس؛ وأن كل الناس تراودهم فكرة كتابة عمل إبداعي، وأنه ككل الناس أيضا قاوم هذه الرغبة حتى انهتك سر هذه المقاومة.. لأن غريزته الملحَّة كانت الكتابة وليست الأمل والتوهم وحب الشهرة! وهذا ما يراه القارئ لإيكو الذي صار مليونيرا بسبب روايته "اسم الوردة" التي بيع منها أكثر من ثلاثين مليون نسخة حول العالم، وتحوّلت لعلم سينمائي كبير، لا لأنها مثيرة "غرائزيا" كما يمكن أن تكون الثورة الثقافية لدى بعض العرب! لكنها مثيرة للعقل وتلج لأماكن حساسة في الفكر الديني المسيحي.. هذه هي الأسباب الثقافية التي دعت إيكو لكتابة الرواية بعد شهرة كبيرة في العلم.. لقد حصل إيكو على شهادة الدكتوراة عام 1954م، واشتهر بعدها لأنه ظلَّ يكتب في شتى الموضوعات في مدة بلغت أكثر من ستين عاما.. غير مكتفٍ بشهادته بل محلِّقا كما هو معنى اسمه "إيكو" في اللغة اللاتينية: "هبة السماء".. والمتصفح لكتب إيكو وشروحاته ومحاضراته تحديدا في مجال السرديات؛ يُدرّك معنى التبسط والفائدة بمجرد المرور العابر، فالأسباب الثقافية تلحُّ عليه مرة أخرى بعدم التكلف في شرح مرئياته في الرواية والقصة، والتي أجدها شخصيا من أمتع القراءات التي حظيتُ بها.. كنتُ أضع اقتباسا له على متصفحي الخاص يقول فيه: "أحاول إبداع عالَمٍ ممكن".. وهذه العبارة لخَّصت بالنسبة لي رحلة الإنسان لنفسه وللآخرين من خلال ترك "المكان العام" رائعا بعد الرحلة وفي أثنائها.. أشخاص مثل إيكو يستحقون القراءة والاكتشاف.