يتجول صباحا في تلك المدينة المزهوة، يخرج من جيبه قطعة سكر صغيرة يذوبها في فمه وهو ينظر لقطار يسابق الوقت من أجل الوصول إلى محطته الأخيرة في الضاحية . يخرج وحيدا .. يغوص في الزحام عمدا وكأنه يريد استنشاق ما يقوله الناس . في جيب معطفه الطويل يدس قلما وبعض الأوراق كي يدون عليها تفاصيل الوجوه التي قد يشاهدها لمرة واحدة ومن ثم تختفي وكأن شقوق الأزقة ابتلعتها. يبحث الرجل الأنيق «أورهان باموق» دائما عن التفاصيل البعيدة ، المختبئة في الظلام . يفتش عن أشياء تصنع المفاجأة، وتربك عقل القارئ وتثير لديه تساؤلات تجعله يعيد النظر إلى وجهه في المرآة . باموق يشبه إلى حد كبير عامل المناجم الذي يحفر الأنفاق ، ويكسر الصخور وهو يغني ويدخن سيجارة رديئة ليصل إلى شيء ما . ويكون أكثر سعادة كلما ابتعد إلى داخل النفق حتى وإن كان جهاز حساب الأكسجين ينذره أن الموت قريب . كاتب يعشق الإثارة ويحب أن يقذف بحجر ليحرك الركود ، وهذا ليس لأنه يريد ذلك أو يقصده ولكن ما يكتبه كان يصيب أهدافه بدقة ويهز جذع الشجرة بقوة. ابن اسطنبول .. المعماري الذي لم يكمل دراسة الهندسة ، والذي حاصرته الكتابة لم يصنع لنفسه وطنا آخر بعيدا عن الناس ؛ لأنه كان يعود إليهم كلما أنهكته الكتابة . ظل فيه ذلك الطفل الذي أدهشه «البسفور» والصعود إلى التلال والركض فوق الجسور الخشبية . لذلك هو يكتب ليبعث من ذاكرته ما علق فيها من صور إنسانية . باموق لا يعشق هذه الحياة .. أقصد الحياة التي يعيشها حقيقة ، فنجده ينسج في أعماله وجها مغايرا لحياة أخرى .. يحيكها بقلب الطفل الذي فضل أن يستريح هناك تحت ظل شجرة جوز عتيقة . فبرغم عزلته وخجله الشديدين إلا أنه انغمس بطريقته في حياة البسطاء وسجل من خلالهم مشاهداته التي أثرت في بناء شخصيته الروائية . علاقته بوالديه كانت أشبه بالمشي على حافة بركان .. لم تكن حياته الأسرية مثالية على النحو الذي يرغبه . وربما هذا الأمر جعله أكثر ميلا للعزلة وللكتابة.. فهي العزاء الأوحد كما يقول . صاحب «حقيبة أبي» يكتب كما لو أنه يسير في طريق مستقيم ولمدة طويلة ، ولكنه لا يجعلنا نصاب بالملل. ربما لأنه يمتلك سر الحكاء الذي يلقي بدلوه في بئر الحكايات ومن ثم يجره دون أن تصيبه رعشة التعب . فالحكاية لديه مزيج من أشياء نعرفها .. وربما عشناها وفلسفات قد نجهلها ولكننا ندرك أنها قريبة منا، حكايات بمذاق شهي وألوان لا يجيد مزجها غيره. باموق يمتلك لغة ساحرة مثيرة للدهشة تأخذنا إلى طرق ومسارات، طلوعا ونزولا دون أن نشعر بتوعك. يقول عن الكتابة : (بينما أجلس إلي طاولتي، لأيام، وشهور، وسنوات مضيفا ببطء كلمات جديدة في الصفحة الفارغة أشعر كما لو كنت أخلق عالما جديدا، كما لو كنت أبث الحياة في ذلك الشخص الآخر داخلي، بنفس الطريقة التي قد يبني بها شخص ما جسرا أو قبة، حجرا بعد حجر). هذا الصبر والتفاني جعلا منه حالة خاصة لكاتب يأخذنا معه إلى عوالمه الخاصة دون أن يسألنا عن الطريقة التي عثرنا بها عليه . فهو يؤمن أن القارئ يستطيع التقاط روائح الكتابة الشهية حتى وإن أخفق بعض الأحيان . يعترف أورهان باموق أن الكتاب جعل منه شخصا أقوى .. زوده بالنور الذي كسر به عتمته الداخليه . القراءة في نظره أهم من صناعة الكتابة .. فهو يدرك أن الأفكار الجديدة لا تخلقها إلا القراءة العميقة والثرية . الكتاب هو مركبه الصغير الذي لم يخيب ظنه والذي طالما كان يفاجئه وينقذه من مخالب الخيبات المحبطة .. لذلك هو يردد بفرح غامر :(الكتب أعادتني للحياة ). هو كاتب ماهر بالفطرة .. يعرف جيدا أن هذه الحياة فيها من يصنع الحزن ويبيعه في زجاجات أنيقة . يعرف أن هذا الركام من الموت بشع .. وأنه ككاتب عليه أن يصنع المستحيل و يغرس بذرة ويسقيها لتثمر بين هذا الركام الأسود . هو يكتب لأن هناك من ينتظره ليتنفس . و يكره الشعور بالذنب لأنه كان ينظر لهذا العالم من زاوية الكاتب الذي يلملم أوجاع الآخرين ليحبسها في كتاب ويمضي .. بينما هي تتعفن وتفوح من بين الأوراق وتصبح مرضا قاتلا . في داخله يكبر هاجس الكاتب الأبدي ... الوفاء من القارئ .. وأبدية الخلود في قلوب الناس ولن أجد ختاما أجمل مما قاله عن خوفه من محرقة الكتابة : (أخاف اليوم الذي سيتحالف فيه أبطالي وقرائي ضدي ). - محمد عسيري [email protected]