متطرف جد أنا. لست وحدي؛ فكل أهل تهامة مثلي متطرفون؛ والعتب عليها, على تهامة التي تهبنا من كل الفصول فصلين فقط.. فصلاً واحداً حاراً، وفصلاً أشد حرارة.. تهبنا فصلاً قاسياً، وفصولاً كلها قسوة، ومواسم رحيل ما زالت تمتد، وكأن العمر كل العمر فرار. ولأننا نراوح كل حياتنا بين الحار والحار جداً، بين الأبيض والأشد بياضاً.. ولأننا نقيم على خاصرة البحر وضلع الجبل، فقد بقينا نحاول قسمة كل الأشياء على اثنين: العشق حتى التوجع أو السلوان حتى النسيان.. العطاء حد الإسراف أو الرفض حد العناد.. والحضور حتى نكاد نكون شجراً أو الغياب حتى نكون سحاباً. ولن ندعي أننا نختلف عن الآخرين، لكننا نحاول دائماً الاحتماء بكبريائنا؛ ليس لأننا متكبرون؛ والتهامي كالأرض لا يعرف الكبرياء، ولكن لأننا نخاف أن تتكشف قاماتنا القصيرة وأرواحنا الشفيفة، ولأننا نتهشم إذا انكسرنا؛ لذلك نحتمي بالصمت، وبنا منا، ونغطي على كل عور بالشعر والغناء، لكأننا نعتذر أننا من تهامة. التهامي مأزوم دائماً.. وأزمته ليس مع ذاته، ولا مع الآخر.. أزمته الرغبة في الاكتمال، أزمته المسافات الطويلة، والانتظارات الطويلة، ودورة المواسم عنده قصيرة.. وكل شيء يحدث سريعاً ويغادر: الزرع.. الحصاد.. مواسم الغبار ثم المطر، وتكرار الأشياء مرة أخرى، وإذا ما تأخر شيء يصاب التهامي بالقلق.. ويسافر، وقد يمضي ولا يلتفت، وكأن الريح تكنس بعده الخطى؛ كي لا يعود. وأهل تهامة لا يكتبون الرواية إلا نادراً.. الرواية انتظار، وعوالم تتشكل، ولا عوالم للتهامي عدا عوالمه الصغيرة.. لهذا التهامي مغرم بانفجارات القصيدة، وربما القصة القصيرة، وبكل تأكيد مغرم بالغناء. والروايات التي يصدرها التهامي قليلة أو قصيرة أو رديئة.. الروايات كذب واختلاق، والتهامي لا يعرف كيف يكذب، وإذا ما كذب جاء كذبه رديئاً ومفضوحاً كالحب المستعار. وحتى شجر الفاكهة قليل في تهامة.. شجر الفاكهة انتظار وصبر وسنوات من الرعاية، فهل يفعل التهامي ذلك؟ والذين يفعلون ذلك الآن تهاميون خانوا مزية القلق، وأنا لا أحبهم، ولا أنتمي إليهم، وأخاف منهم.. أخاف من كل الذين يفكرون طويلاً قبل الكلام. وتهاميون، وقدرنا أننا هكذا هم نحن..كقدر تهامة المطوقة بالبحر والجبل، وما من ملاذ سوى احتساء الرمل والترمل طويلاً في ثياب الحداد. - عمرو العامري