ضمن سلسلة «مكتبة نوبل» التي تصدرها دار المدى بدمشق إذ تختار للسلسة، كما يشير الاسم، إبداعات الفائزين بجائزة نوبل في الشعر والرواية، صدرت مؤخراً مختارت شعرية للشاعر والروائي السويدي هاري مارتينسون بعنوان «باقة برية»، وبترجمة د.عابد إسماعيل، تضم مجموعة من القصائد القصيرة التي تحتفي بالطبيعة وتصور التنوع المدهش لكائناتها من شجر، ونبات وطيور، وتلقي الضوء على جانب هام من التجربة الشعرية لهذا الأديب السويدي الذي فاز بأرفع جائزة أدبية في عام 1974 ألا وهي جائزة نوبل بعد مجموعة من الدواوين الشعرية لعل أهمها قصيدته الملحمية «أنيارا» التي صدرت العام 1956، وعدد من الروايات التي خولته لأن يتبوأ مكانة هامة في عالم الأدب، ومن أهمها «رحلات دون هدف» 1932، و«وداع الرأس البحري» 1934، و«السفر» 1936، و«الطريق إلى كلوكريك» 1948، و«منظر من أعلى المرج» 1963وغيرها، وقد عرف مارتينسون (1904 - 1978م) الشهرة والنجاح، قبل فوزه بجائزة نوبل، عندما أصدر العام 1935 روايته الشهيرة «الشوك يزهر» التي تتناول طفولة الكاتب، والتي كتب أحد النقاد عنها قائلا: «بقي مارتينسون في (الشوك يزهر) شاعر الصور الغنية، وتداعيات الأفكار السريعة الفكهة، والمفاجئة، والمفردات غير المتوقعة الجديدة التي غالبا ما ابتدعت من اجل إحاطة افضل بخصوصية شخص أو انطباع عن الطبيعة». حياة قاسية: عاش مارتينسون حياة قاسية جدا فقد توفي والده المدمن على الكحول وهو طفل، وهاجرت والدته إلى كاليفورنيا تاركة، هاري، ابن الستة أعوام مع أطفالها الأربعة الآخرين، الأصغر منه سنا، في كنف دور الرعاية العامة، وبعد سنوات من الإهانة قضاها مع مربيه، فر إلى البحر في سن الرابعة عشرة فأبحر على متن سفن كثيرة، وتحت أعلام دول مختلفة، وعمل - كما يعبر هو نفسه - في أعمال كثيرة وشاقة، فحين دفع مارتينسون بأحد أعماله إلى النشر كتب سيرة موجزة ومختصرة عن حياته وأرسلها مع العمل إلى الناشر الذي فوجئ بما قرأ:«... هاري مارتينسون المولود عام 1904 ابن ربان باخرة رحلات طويلة، فَقَد أبويه منذ طفولته الأولى، واصبح ربيب البلدية. وبعد عدد كبير من مرات الهرب، والمشكلات التربوية التحق بالعمل في عمر الرابعة عشرة على متن باخرة، وركب البحر بعد ذلك كبحار مبتدئ، ووقّاد، وأنباري، وطاه على متن ثمانية عشر مركبا، وتاه أحيانا كصعلوك في المرافئ، واجتاز متشردا كيلو مترات في جزر الهند، والقارة الأوروبية، وأمريكا اللاتينية. ومارس فضلا عن ذلك حشدا من المهن: ممدد خطوط حديدية، عامل مزرعة، بائع جرائد، وعمل برهة في المسلخ، وراعيا في الأرجنتين. لم ينجز دراسات تأهيلية، المدرسة الابتدائية ثم مدرسة الحياة القاسية». ومن مدرسة الحياة القاسية هذه استطاع مارتينسون أن يجد لنفسه موقعا بين مشاهير الأدب، وأن يبدع، ويقدم إنتاجا أدبيا متميزا توخى فيه الصدق الممزوج بتقنية أسلوبية جميلة تهدف إلى التنديد بموت الضمير الإنساني، والانتصار لقيم الحب، والتسامح، والحنان وهي قيم كان يفتقدها الكاتب في طفولته، وصباه فراح يعيد إنتاجها في نصه الشعري والروائي ليقدم للآخرين دروسا في التواضع، والصدق، ومغزى الألم، ورائحة الحرمان، ومذاق الانكسار عبر تدوين وتوثيق الحياة الصاخبة، والبائسة التي عاشها، والجديرة بان تكتب من جديد على شكل كتابة أدبية رفيعة المستوى. التعلق بالطبيعة: تعلق مارتينسون بالطبيعة، ولعل هذا النزوع يتبدى أكثر ما يتبدى في مختاراته هذه «باقة برية» ففي هذه القصائد يشعر المرء لدى قراءتها وكأنه يسير في بيئة ريفية جميلة مليئة بالأزهار، والأطيار، وجداول المياه، يسمع حفيف الشجر، وزقزقة الطيور، وخرير المياه، وتمتد أمام أبصاره مساحات واسعة من المروج الندية، والحقول الخضراء، وتتبدل فصول الطبيعة، فهذه المختارات تحفل بمفردات الطبيعة وكائناتها، وألوانها، وأصواتها، ويشير لارس جيلينستين إلى أن مارتينسون يشبه كثيرا عَالِم النبات الشهير من حيث «براعته الأصيلة والعميقة، وتيقظه المرهف غير التقليدي، وتماهيه الحنون، واللطيف والهادئ مع شكل، وهيئة كل شيء حي» فمن أمتار مربعة قليلة لمشهد طبيعي، يراقبه ويدرسه، يطور الشاعر منظورا كونيا أوسع، وفلسفة رحبة للحياة. وبتواضع جم يقدم مارتينسون تعريفا لما يسميه ب«كاتب الطبيعة» بالقول«إنه الفنان القادر على التعبير عن حقائق بسيطة قديمة تجعلها تبدو جديدة. يمكنه أن يقول بان العشب أخضر، وأن الطير يغني، وأن الشمس تتلألأ فوق المياه.لتحقيق ذلك يحتاج الكاتب إلى الصبر، والحساسية، والرغبة، والى المقدرة على نقل الذات إلى حالة خاصة من الهدوء الذهني الصافي في كل مرة يريد أن يحقق تواصلاً فنياً وتحليلاً مع الظواهر الطبيعية». ينجح مارتينسون من خلال هذه القصائد، في تصوير ملامح الطبيعة في بلاده السويد، ويبرع في استحضار البيئة المحلية بكل زخمها ومناخاتها فهو لا يجنح كثيرا مع الخيال بل يكتب بواقعية سلسة بسيطة وشديدة الوضوح، ولعل ما يميز قصائده تلك اللغة النابضة بالحياة والتي تحاول أن ترسم بصدق حالته النفسية القلقة والمضطربة، فهو يقدم صورة للطبيعة من خلال منظوره الذاتي إذ يسبغ على المشهد الماثل أمامه شيئا من روحه الكئيبة والقلقة فتبدو الطبيعة وكأنها تواسي الشاعر الذي لا يهمل كل ما تقع عليه عينه من النبات، والحيوان، والدروب، ولون الفصول، وحركة الطبيعة المتقلبة، ورغم غلالة الحزن هذه التي تغلف نبرة القصيدة لديه إلا أنها لا تفتقر إلى الشاعرية، والرومانسية، والى تلك الغنائية العذبة التي تميز معظم القصائد. وحسب مارتينسون لا توجد حدود فاصلة بين وصف الطبيعة والأدب المحض :«إن اللقاء بالطبيعة هو اللقاء بالحياة نفسها وبالوجود الصرف»، وفي قصائده هذه يستنهض مارتينسون الحواس جميعا: فالأوراق «ترمش على الأشجار»، والإوزة تشق طريقها عبر «المخمل المتخثر للمستنقع»، في حين أن الفراشات «بوشاحاتها المشرقية المضيئة» تصيخ السمع لأشعة القمر، والثوب الطويل لجلد الأفعى «يشع أبيض في الغابة»، و«صوت الربيع يسمع في الحقول». يقول ويليام جي سميث في مقدمة هذه المختارات بان قصائد مارتينسون «تتحلى بلطف لغوي، بهي ومثير.إنها قصائد تنزلق وفق سجية مفرداتها، مثل سفينة تمخر عباب بحر هادئ. وتشعر أن الأشياء حية ومرنة وعطرة مثل عشب ينام تحت الماء»، ولعل هذا الإخلاص العميق للطبيعة نابع من الحياة المريرة التي عاشها مارتينسون مع البشر الذين عاملوه بازدراء فاختار الطبيعة ملاذا آمنا إذ لا يغيب عن باله أن الأشياء في الطبيعة، صغيرها وكبيرها، تتفاعل وتتناغم و«هذا هو السبب الذي يجعل المرء يشعر بالأمان فيها» كما يعبر مارتينسون الذي يطلق صيحة موجعة وبليغة في إحدى القصائد: «ما أجمل أن يستنشق المرء عطرك المنعش، أيتها الأرض»! قصائد من «باقة برية» لهاري مارتينسون : بقعة عشب بقعةُ العشب تمتص الشمسَ وببطءٍ وهدوءٍ تطردُ الصقيع عن جسدها الأرضي. تتابع نموها على وقع تنهدات ربيعٍ من الدفء المتراكم. ألسنة وحواف الشمس المكنوس تنحسر على الملأ في العاصفة الثلجية. قطراتٌ تدلف من السقف تسجّل الوقت في برميل. باقة برية مضمومةً في باقةٍ، ترتجفُ الزهور ذات الأجراس الزرقاء، تحاول أن تقتحم نظرةَ عينك المفتوحة الساهمة، حيث الخريفُ ما يزال هنا، جافاً ومملوءاً بالبذار. أيامٌ مشعةٌ، جافةٌ وطويلةٌ، مع ريح شمسيةٍ لاذعة. من العشب النحيل المنساب كالشَعر، تتساقط ندفٌ من البذور. استيقظي، فتاتي الحالمة، يا ذات العينين الواسعتين، وعودي إلى هنا قبل أن يحلّ الخريف ويهيمن على الأنحاء! جزيرة صغيرة طائرُ غطّاس الماء يستدير برأسه أولاً ومن ثم بجسده، ويرمي عنقه مثل سهم ملون داخل دوائر الماء، فتهتزّ الجزيرةُ الصغيرةُ، ومن ثمّ تطفو سابحةً إلى الأمام مثل سفينةٍ بأشرعة من السنديان، قاذفةً بكل أعوامها، ولو لبرهة قصيرة، في موج الحاضر. أغنية المرج مرجٌ مزهرٌ لا يمكن وصفه إلا من خلال فراشاته، وليس ثمة من ينشدُ له بأفضلَ ما يفعل نحله. لاشيء يمكن أن يتذوق حتى الثمالة بريق آلاف الأجنحة ويفهم بالضبط أغنية النحل سوى تلك الجنيّات اللواتي، منذ الأزل، درّبن أنفسهنّ على الإصغاء.