أوضحت دراسة حديثة صدرت مؤخراً من قبل وزارة الصحة أن هناك ارتفاعا في تكلفة الخدمات الصحية عموماً، تبعاً لارتفاع تكاليف الأدوية، والتجهيزات الطبية والتقنية، وارتفاع مرتبات القوى العاملة، وتزايد الأمراض المزمنة، والزيادة السكانية المضطردة. وبالرغم من أهمية هذه الدراسة، إلا أنها في الحقيقة لا تمثل قياساً دقيقاً لتكاليف الخدمات الصحية، فهي لم تقدم توصيات محددة تبرز العلاقة بين التكاليف وحجم النشاط الصحي، وأسلوب الرقابة عليها، كما أن الكثير من الناس يتساءلون عن أسباب تباين واختلاف الخدمات الصحية بين المستشفيات الحكومية والمستشفيات الخاصة، حيث إن الأخيرة تقدم خدمات أكثر جودة وبتكلفة أقل وتقديم الخدمة بسعر مرتفع، والعكس بالنسبة للمستشفيات الحكومية (جودة أقل، وتكلفة عالية، وتقديم خدمة مجانية)!. وفي رأيي أن السبب يعود إلى غياب تطبيق أصول وأساليب محاسبة التكاليف في النظام المحاسبي الحكومي عموماً، والذي من سلبياته عدم تزويد متخذي القرار بمعلومات تفيد في التحقق من كفاءة واقتصادية وفعالية الأنشطة الصحيةً. فمصطلح "محاسبة التكاليف" غائب تماماً في العمليات المالية الحكومية، بسبب أن هذا النوع من المحاسبة في رأي البعض لا يصلح للتطبيق إلا في المنشآت الصناعية فقط، وذلك لاحتساب تكلفة المنتجات الصناعية وتسعيرها، فحتى المنشآت التجارية الأخرى وغير الصناعية لا تطبق هذا المفهوم، فما بالك بالجهات الحكومية الأخرى والتي لا تقدم سوى خدمات عامة يستحيل قياسها بشكل كمي وحسابي؟! ولكن المبادئ العلمية للمحاسبة تؤكد على أن محاسبة التكاليف قابلة للتطبيق في جميع الأنشطة، سواء كانت صناعية أم غير صناعية، فالمبدأ العام أن لكل نشاط تكاليفه، وحيثما توجد تكلفة، فإن هناك إمكانية لتطبيق مبادئ وأساليب محاسبة التكاليف لقياس تكلفة النشاط والرقابة عليها. وبالتالي فإن المبادئ والأصول العلمية التي تحكم محاسبة التكاليف لا تختلف من نشاط لآخر، كما لا تختلف الأهداف العامة لها، وتتشابه طرقها وأساليبها في عملية القياس في أي جهة كانت سواء كانت حكومية أو شركة (صناعية أم غير صناعية). وفي هذه المقالة سوف نتناول تحليلاً مبسطاً للمشاكل التي تواجه القطاع الصحي في المملكة في مجال تطبيق "محاسبة التكاليف"، ومدى إمكانية التغلب عليها حتى يمكن قياس تكلفة الخدمات المقدمة للمواطنين، والتوصل إلى نموذج محاسبي مبسط يمكن تطبيقه في الجهات الحكومية الأخرى مثل قطاع التعليم والبلديات والمواصلات، وذلك حتى يتوفر للإدارة العامة (الحكومية) أداة إدارية هامة تساهم في عملية التخطيط والتنظيم والرقابة واتخاذ القرارات المهمة. وأود الإشارة بهذا الصدد إلى أن خطة التنمية التاسعة في الفصل الخاص بالصحة أكدت على تبني نظام موحد ومتكامل للمعلومات الصحية يتم من خلاله توفير البيانات اللازمة لأغراض التخطيط والمتابعة وحسابات الصحة الوطنية وحسابات التكاليف، وبالتالي فإن وزارة الصحة بحاجة ماسة إلى تطبيق " محاسبة التكاليف" لتحقيق هذا الهدف. إن نقطة البدء في قياس ورقابة التكلفة هي تحديد المراكز التي سيتم تجميع التكلفة على أساسها، ثم بعد ذلك يتم تحديد وحدات التكلفة التي ستحمل عليها تكلفة تلك المراكز، ولكن المشكلة التي تواجهنا في القطاع الصحي تتعلق بأمور عدة منها ما يلي: • تعدد أهداف الخدمات الصحية، وغياب مؤشرات أداء يمكن قياسها بموضوعية للحكم على كفاءة وفعالية البرامج الصحية. • صعوبة الفصل بين مراكز الخدمات الأساسية (مثل العلاج الطبي)، ومراكز الخدمات المساندة أو المعاونة (مثل الإعاشة والتغذية). • في القطاع الصحي الحكومي لا يوجد حافز للربح، ولا سوق تنافسية، ويتم التركيز على صرف الأموال وفق الأنظمة والقوانين فقط بغض النظر عن كفاءة وفعالية إدارة هذه الأموال، كما أن توزيع المخصصات المالية يتم بطرق غير علمية. وللتغلب على المعوقات السابقة يتم تحديد مراكز للتكلفة ووحدات للقياس بناءً على أسس ومعايير علمية تعتمد بشكل مباشر على تحليل وتقييم البيئة الداخلية والخارجية للمستشفيات، وعلى ضوئها يمكن مراقبة التكاليف عند المنبع، حيث تنشأ المسؤولية عن هذه التكاليف، وبالتالي يمكن تصحيح الانحرافات إن وجدت وفي الوقت المناسب وتحديد المسؤولية بشكل مباشر، فضلاً عن إمكانية تحديد ما إذا كان هناك مبرر لزيادة التكلفة أم لا، بالإضافة إلى معرفة ما إذا كان هناك هدر مالي أو خلل في توزيع المخصصات المالية. تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك عدة طرق لقياس التكلفة تحدد على حسب حجم وطبيعة النشاط بالإضافة إلى عوامل أخرى، ولغرض التوضيح أطرح مثالا نموذجيا بسيطا يمكن من خلاله تحديد تكاليف الأنشطة الصحية، فعلى سبيل المثال يمكن تبويب وتصنيف مراكز التكاليف للأنشطة الصحية على النحو التالي: 1) مراكز تكلفة للنشاط الرئيسي: (العلاج الطبي، الجراحة، العناية المركزة)، وتبوب أيضاً هذه الأنشطة إلى أقسام متعددة، فمركز العلاج الطبي قد يقسم إلى أمراض باطنية، نساء وولادة ...إلخ. 2) مراكز تكلفة الخدمات المساعدة ( التمريض، قسم الأشعة، المختبر، الصيدلية). 3) مراكز تكلفة الخدمات الإدارية (السجلات الطبية، الصيانة والنظافة، إدارة شؤون المستشفى). وكل مركز تكلفة يتكون من تكاليف مباشرة وغير مباشرة (ثابتة ومتغيرة)، وتشمل الأجور والرواتب والتقنيات، والمصاريف الأخرى (الكهرباء، الاتصالات، الصيانة...إلخ)، وهكذا ، وعليه يتم تخصيص كل تكلفة وتوزيعها على الأقسام الأخرى حسب ارتباط التكلفة بالنشاط، والتي بدورها تخضع لطرق قياس وتطبيقات مختلفة تتضمنها معادلات رياضية لاحتساب نسب التكلفة. وبهذه الطريقة يمكن تحديد تكلفة علاج المريض الواحد، بطريقة علمية دقيقة وواضحة، وبالتالي إيجاد إدارة مالية فعّالة في القطاع الصحي وغيره من القطاعات الأخرى في الدولة، تعمل على استخدام الأموال العامة بكفاءة وفعالية أكثر، وعليه يمكن تبني مشروع لتطوير الإدارة المالية ونظم المعلومات في الجهات الحكومية وذلك من خلال إدخال مفهوم "محاسبة التكاليف" في النظام المحاسبي الحكومي.