إلى جانب النافذة الكبيرة في المستشفى الموحش أجلس وألتهم حبات العنب. نادرًا ما آكله. هذه المرة أغرتني حباته التي تشبه العلكة التي يمضغها توم! وأراقب الحياة التي تمر هنالك في الخارج دوننا. أمي تحب العنب، لكنها هذه الأيام لا تأكل كما يجب... أراقب وجهها ونفسها المتعب. ليست هنالك غيمة للأحلام تحلق فوق رأسها. ينحني ظهرها لالتقاط شهقة هواء عابرة لا تكفي... العالم كله يغدو بوسع سَمّ الخياط حين تبحث أمي عن الهواء... هذا الكون الذي يشبه بالونة منتفخة يشح عن نسمة تمر عبر صدرها! كنت دومًا أقول: الورد رشوة لقلب أمي علَّه يحسن النبض، ونبحث سويًا عن رشوة لرئتها المتعبة... هنا في هذه الغرفة الصغيرة نجتمع نحن - ثلاث نساء - كما اعتدنا دومًا أن نكون، ويمر بنا بعض «السيارة» يتلون الأدعية لأمي، ثم يغادرون، ونبقى نحن، ثلاثًا، في الغرفة الصغيرة بأثاثها الأزرق المقيت! أكرهه حين يأخذ شكل بقعة على كف أمي، وحين يكون غطاء «الكانيولا» التي يمررون بها الدواء، وحين يكون الباب الثقيل لغرفة العزل وأنبوبة الأكسجين! تنام هناك، ويقف بيننا أنبوب التنفس فلا أطول قُبلة على جبهتها. أقول لها «أعرف أنك تفهمين ما أريد قوله إن أعجزتني الكلمات، وأعرف أنك تسمعينني بعيدًا عن صوت الأجهزة المرعبة التي تحيط بك، أعرف أنك تسمعينني بقلبك المتعب، ورئتك التي احتلتها الكتلة الخبيثة، وبيدك التي تغير لونها، وبقدمك الصغيرة التي تشبه أقدام الصينيات، وحتى بكليتك المجهدة، أعلم أنك تسمعينني بكل كرية تمر بدمك». فتقطب جبينها، وتحرك جفنها حين أتلو عليها {إن بعد العسر يسرا}! ما زال الطريق إلى البيت أكثر ألفة من البيت ما دامت أمي لم تطأه بعد، وما زال الطريق إلى المستشفى يثير ذكريات رحيل أبي منذ عام وخمسة أشهر في المكان نفسه، والغرفة نفسها التي ترقد فيها أمي! لو أنني رأيت هذا المشهد في فيلم فسأضحك من مبالغة المخرج، لكنني لا أضحك الآن!! كلما اقتربت منها يبتلع لساني الخوف. ألاحق الممرضة التي تنظر إلينا باستغراب، وأسألها عن كل تفصيل، لا أظنها تعي مقدار الهلع الذي ينتابني كل ليلة وأنا أصحو مفزوعة لأنظر في هاتفي، ولا مقدار البرد الذي يغزو عظامنا كل يوم؛ لأننا لم نسمع صوت أمي منذ أسبوعين! لم تعد الغربة أرضًا جديدة. عليّ أن أرتب تفاصيلي وملامح وجهي مرة أخرى فحسب. الغربة غيابها عنا، عني... أفتقد رفقتها في صلاة الفجر، وفي النوم، وفي الحلم، في الصباح الذي يبدأ بها، والنافذة التي نراقب منها المارة والباعة المتجولين، في الشجرة التي كنا ننظر إليها من بعيد، ووعدتها بأن نجلس في ظلها. أمي...