انحدروا بجيادهم من سفح التل المتكئ على أطراف مضارب قومهم، كان دافع انعصافهم ما رأوه من حشد النوق المتحلق حول بؤرة مستديرة، كلما اقتربوا منها اتضح لهم مشهد أعناق الإبل وهي تغرس أشفارها في الرمل، واحدة تلو الأخرى يمتد رأسها باتجاه السماء بعد كل انحناءة. لم يعهدوا هذا الالتفاف إلا حول أعلاف يقذفونها لها كنافلة على قروح مواسم احتباس الماء. وقفوا مشدوهين من قطرات الماء المتسللة من أشفار الإبل، ترجل أحدهم واستل سيفه ينش به على رقابها المتفاوتة طولا وحركة. - أيها القوم.. ما أنتم ذاهبون في طلبه أتاكم طوعا، انظروا إلى الماء يفتق مبرك بعيري الذي ظل يرغي معلولا قبل عام هنا. قفز آخر من صهوة جواده، ومسد على شاربيه النافرة عن سطوة أنفه، وطوح بعينيه النوق وهي تتفرع عن نقطة الماء وتبحث بسبب إلى الكلأ، وضرب نبس الماء بقدمه المخدشة من وعورة الجبال وجهر بصوته: - هذا مضرب أوتاد خيمتي قبل بعيرك أيها الوغد، والقوم شهود بين حقي ومطمعك! احتد الخصام بينهما وصار الناس يتقاطرون على دفق الماء واللغط يتزايد بينهم إلى أن أحجموا مناسم الريح عن فوهة العين.. رجال ونساء، شكلت ألوان ثيابهم عرسا تقدح شرارات فرحه على حدود السيوف، والأطفال بجباههم العطشى تيمموا النبع، وشمس الضحى تأوي إلى خدر الظهيرة. من بين الجمع رفعت يديها «عفراء» وصاحت حتى ألجمت المكان: - ويحكم! منذ أن هبطنا هذه البطون وصلاتي لا تصعد إلا من هذه البقعة في الغدو والرواح. تباعدوا قليلا بعد أن جاء شيخ القبيلة، ورأى مطامع القوم تلتهب تحت سياط الظهيرة، والرعايا أقفرت الثرى إلى الظل. خيامهم المنفرجة ترسل أوتادها كعناكب واهنة من عصف الرياح، تلال وجبال تحيط مضاربهم كأحزمة الرصاص. نادى فيهم: - تحاط هذه العين المنفجرة بأسلاك شائكة، ويوقف السقاء حتى نفصل أمرها. غرس أعوان الشيخ أعمدة مستديرة حول الماء، وعلقوا عليها الأسلاك في طي محكم، تفرقوا إلى خيامهم يجترون الأسئلة، وتركض في أذهانهم مسافة الحلم العنيد. صبيحة الغد انفرطت حبات دهشتهم على أرضهم البوار عندما أبصروا آليات حديثة تدلف على الماء، وغرباء بزي موحد يقتلعون السياج دون هوادة، ويفتقون لحاف الترب عن أنبوب أسمنتي منكسر يعبر من مدينة لأخرى.