تحت عنوان «أزمة التصنيف الفكري وآثارها الاجتماعية» نظم النادي الأدبي في المنطقة الشرقية مساء يوم الأربعاء 3 ديسمبر من الشهر الجاري أمسية ثقافية، وقد دعيت للمشاركة فيها إلى جانب الدكتور مسفر القحطاني وأدارها الكاتب الأستاذ محمد العصيمي. الأمسية التي حضرها جمع من المثقفين والمثقفات وتخللها العديد من الأسئلة والمداخلات المهمة التي أغنت الأمسية. من جهتي طرحت ملاحظة منهجية على العنوان الذي أعد وجرى تعميمه قبل أن اطلع عليه وهو تقصير مني. ملاحظتي تضمنت أنه لا يمكن إطلاق مسمى أزمة على التصنيف الفكري لأنه تحصيل حاصل، ففي جميع المجتمعات المتقدمة وغالبية البلدان النامية والمتخلفة على حد سواء نرى وجود التباينات والاختلافات في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية والنفسية. إننا نرى مختلف التكوينات والتصنيفات السياسية والفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، هناك تيارات وتكوينات ليبرالية ويسارية وقومية ودينية وهي في الغالب (وخصوصا في الدول الديمقراطية) تتعايش وتتنافس ضمن ضوابط قانونية تحكم الجميع وتمنع تغول واستفراد واحتكار جهة ما للفضاء الاجتماعي / السياسي / الفكري. إذاً المشكلة أو «الأزمة» ليس في التصنيف الفكري، لكنها تكمن في ما يستبطنه هذا التوصيف من خطاب وموقف إقصائي ينضح بالعداء والكراهية والتحريض أو العنف الرمزي والمادي إزاء الأخر المختلف، وللأسف هذا ما هو موجود في جل البلدان والمجتمعات العربية ومن بينها مجتمعنا. وهو ما يتطلب مواجهته من خلال سن حزمة من القوانين والإجراءات النظامية التي تحرم وتجرم خطاب الكراهية والإقصاء تحت أي عنوان ومن أي جهة كانت ضد الآخر المختلف، وهو بطبيعة الحال لا يعني التضييق على حرية الرأي والتفكير والنقد والمعتقد. وقد أكد على ذلك الملك عبد الله بن عبد العزيز إبان افتتاحه أعمال السنة الثانية للدورة الخامسة لمجلس الشورى بقوله «الكلمة أشبه بحد السيف، بل أشد وقعاً منه وإني أهيب بالجميع بأن يدركوا أن الكلمة إذا أصبحت أداة لتصفية الحسابات والغمز واللمز وإطلاق الاتهامات جزافاً، كانت معول هدم لا يستفيد منه غير الشامتين بأمتنا، وهذا لا يعني مصادرة النقد الهادف البناء». إذاً الأزمة لا تكمن في التصنيفات الفكرية لأنها تحصيل حاصل وواقع موضوعي، لا يمكن تجاهله أو القفز عليه لكن الأزمة الخطيرة تكمن في ظاهرة تنامي العنف الرمزي كنسق ثقافي - اجتماعي مهيمن، يشكّل أحد المكونات الحاسمة في تخليق ظاهرة العنف والإرهاب المادي المكشوف. الواقع والتجربة يوضحان بأن التطرف والإرهاب يبدآن فكراً. التطرف والإرهاب يستندان إلى أرضية فكرية وأيدلوجية تتسم بالانغلاق والتزمت والتشدد، وإلى تعبئة اجتماعية ونفسية من خلال قنوات ومؤثرات مهمة وخطيرة، مثل طبيعة ونوعية مناهج التربية والتعليم، والإعلام ومحتوى وأسلوب الخطاب الديني وبعض النشاطات الدعوية والخيرية المرافقة، إلى جانب دور القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعي على اختلاف مكوناتها المذهبية التي تعمل على تأجيج وترسيخ ثقافة الكراهية والتكفير. في الواقع ليس هناك من اختلاف جوهري يذكر لا من حيث الشكل أو المضمون بين جماعات التطرف والتشدد والتزمت على اختلاف توجهاتهم السياسية والأيدلوجية والمذهبية، التي تمارس جميعها العنف والإقصاء الرمزي من تكفير وتبديع وتفسيق وتحريض إزاء الآخر المختلف، وبين المجموعات الإرهابية التي تمارس عنفها عن طريق التدمير والقتل. الاختلاف هنا في الدرجة والأسلوب والإمكانيات، وتقسيم العمل والأدوار، فالجميع على اختلافهم وتناقضاتهم في ما بينهم يستهدفون فرض مشروعهم وأجندتهم الخاصة عن طريق إلغاء أو تطويع الدولة والمجتمع والفرد، وهم جميعهم يشتركون في استحضار بعض الجوانب في التراث والتاريخ الإسلامي إلى جانب اجتزائهم لبعض النصوص الدينية عبر إعادة تأويلها خارج سياقاتها، بغية توظيفها لخدمة مصالحهم وأجندتهم السياسية والاجتماعية والأيدلوجية الدنيوية الخاصة، التي تستهدف الحاضر وممكنات المستقبل. وقود هذا الصراع العبثي والدموي الأرعن والمدمر هم شباب في مقتبل العمر يطحنهم الإحباط واليأس والتعصب، ويفتقدون الوعي والمعرفة الصحيحة، وهم قبل كل شيء يفتقرون إلى التجربة والخبرة والقدرة على التفكير المستقل والواقعي، لهذا يسلمون عقولهم وحياتهم ومصيرهم لفتاوى وتوجيهات حفنة من فقهاء الكراهية والتكفير والموت والتدمير، والذين لهم حظ قليل (أو كثير) من المعرفة والعلم الشرعي، غير أنهم يمتلكون قدرة هائلة على سلب العقول، وغسل الأدمغة والتهييج والتحريض التي يذهب ضحيتها هؤلاء الشباب الغض، الذين أصبحوا أدوات للتعصب الأعمى وللموت والتدمير بحق الآخرين، الدولة والمجتمع والفرد، وبحق أنفسهم.