صدرت عن مطابع جامعة أكسفورد دراسة فريدة من نوعها، توضح كيفية قيام المياه بتطوير حياة البشر؛ وهي ما أكدت فيها أن للمياه دوراً في تحسين ظروف البشر، وكذلك ازدياد حجم الدماغ عند الإنسان، وهي المرحلة التي أصبح يطلق على الإنسان فيها Homo erectus. فقد صار يعتمد في غذائه على اللحوم بدلاً من النباتات، التي كان يعتمد عليها في المراحل السابقة؛ وهي (أي اللحوم) تحتوي على سعرات حرارية أعلى من الأغذية النباتية. وبالطبع هذا التحول كان مصاحباً لتغير في مهارات الإنسان، حيث أصبح صياداً للحيوانات التي يقتات عليها، ولأن الصيد يتطلب الحركة والركض لمسافات واسعة؛ فقد أصبح الإنسان قوي العضلات، خاصة في الأطراف التي يستخدمها للركض وللصيد. لكن التحول الحقيقي في حياة الإنسان كانت في مرحلة ما أصبح يعرف بكونه Homo sapiens، التي كانت وفقاً للعالم البريطاني ريتشارد رانغام من جامعة هارفارد - متمثلة في اكتسابه مهارة الطبخ، بعد اكتشاف النار، وقدرتها على تحويل الطعام (من اللحوم على وجه الخصوص) إلى قيمة غذائية أعلى، لأن جسم الإنسان لا يستفيد كثيراً من اللحوم النيئة. وكان ذلك وفقاً لرانغام قبل 1800000 (مليون وثمانمائة ألف) سنة تقريباً، ويعد هذا التحول السبب الرئيس لسيطرة الإنسان على كوكب الأرض. أما كليف فنلايزون، فيقدم تحليلاً مختلفاً؛ إذ يركز على أن الماء النقي الصالح للشرب والاستخدام هو الذي تحكم في بناء الحضارة البشرية خلال سبعة ملايين سنة على الأرض. فمع التغيرات المناخية على كوكب الأرض، بدأت تتزايد منابع الماء النقي في الجزء الشمالي من الكوكب، مما جعل الهجرات البشرية تتجه شمالاً تاركة الغابات الاستوائية. فأصبحت البحيرات والأنهار هي الموضع المفضل لاستقرار الإنسان وبناء مستوطناته. ولكن المجتمعات البشرية قد حسنت مع الزمن من ظروف عيشها، وابتكرت وسائل تساعدها في بناء الحضارة بشكل فاعل أكثر، وأسرع مما كان عليه الوضع من قبل. لكن تلك الوسائل كان لها أيضاً آثارها على مصادر المياه ونقائها، وكذلك على المناخ البيئي للأرض، مما أسهم في تغير درجات الحرارة، وذوبان كثير من مياه المحيطات المتجمدة، ليقلص مع الزمن مساحة اليابسة، ويزيد الأمر سوءا في المستقبل. والآن مع اتساع رقعة المستوطنات البشرية، وشح المياه الصالحة لاستهلاك كل هذه الأعداد من البشر، إضافة إلى ازدياد معدل عمر الإنسان بوجه عام، هل تعود العوامل من جديد للضغط على الإنسان باتجاه معاكس؛ ليفنى أو تقل قدراته، أو يدخل في حروب تتناقص معها أعداد البشر التي تحتاج إلى استهلاك المزيد من المياه، أم يغير طباعه وظروف حياته، أو يرحل جزء من البشر إلى كواكب أخرى، كما يبشر بذلك بعض علماء الفلك؟ بعض موضوعات هذه الأسئلة قد أصبحت على قائمة اهتمامات العوامل الجيوسياسية لكثير من الدول، وفي كثير من الدراسات والتنبؤات. فأغلب المؤشرات تعطي دلائل على أن الحروب القادمة ستكون حروباً على مصادر المياه والانتفاع بها، إذا لم يحصل تطور دراماتيكي في حياة البشر على الأرض، كهجرة أعداد كبيرة منهم إلى كواكب أخرى، أو فناء جزء كبير من البشر لأي سبب من الأسباب. كلها تساؤلات لا يمكن أن تكون الإجابات عنها دقيقة؛ لكن شيئاً يخصنا نحن في شبه الجزيرة العربية، ألم نكن قادرين على مجاراة البشر في هجراتهم إلى محاضن المياه النقية الجارية، أم إنها كانت لدينا، وجفت بأثر من عوامل الطبيعة القاسية؟ فهل نكون أول من يوجد في أرض الحضارات القديمة، وكذلك أول من يفنى من أهل الأرض؟