(3) المرحلة الثالثة هي مرحلة الذكرى، حين ينفصم عرى الوصل، ولا يبقى في ذهن الشاعر، ووجدانه إلا تلك الأيام الجميلة التي قضاها مع محبوبه، وهو إما يتحسر على أيام خلت، أو أنه يطالب محبوبه بأن يبقي ذكرى تلك الأيام الجميلة كما هي: كان حلما يا فؤادي حبها وخيالا ما ألاقي من هواها قبل هذا الشوق والوجد الذي تركته في فؤادي ملتقاها ذكريات الأمس ما أعذبها ليتها ظلت كما كنت أراها فحب هذه الفتاة حلم لأنه غير اعتيادي وواقعي، وكذلك هو خيال لعذوبته، وذكريات الأمس لا زالت تلح عليه وتثير الشوق في نفسه إليها، وإلى أيامها الجميلة. وهذا المعنى يكرره بالشاهد اللاحق حيث لا يستطيع توديع طيفها، وصورتها التي تترقرق في مخيلته في كل حين يقول: سلام. ويرغب في طي صفحة الماضي، فالأيام التي قضاها معها لا تزال حاضرة في وجدانه، ووفاؤه لتلك الأيام يجعله يستعذب تلك الذكرى في الحالين، ويتمنى أن تعود به الأيام السابقة وكأنه الشاعر الذي قال: خلقت ألوفا لو رحلت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب با كيا فحنينه إلى تلك الأيام الخوالي نوع من الوفاء لزمن قضاه، ولأوقات جميلة، ولمتعة قضاها، ولساعة قد ملأت عليه لبه. وقوله: كلما قلت: على الذكرى سلام هتفت بالقلب أيام خوال لم تدم لي يا حبيبي غير ذكرى ليت شعري هل أرى تلك المجالي؟ قد تراءت لي على بعد المدى ما أحيلاها إذا مرت ببالي وقوله: سكن الحب وأغفى يا نديمي كل صاح وأنا ما زلت أشكو من همومي وجراحي فأنا في الحب – يا ليلاي – مسلوب السلاح يا حبيبي، وفؤادي! هل لذكرى الأمس ماح فالذكريات في هذه الأبيات هي عماد هذه التجربة العشقية، وكأنها ارتداد لتجربة سابقة ولكنها في زمن حاضر. وهو لا يعني أن تلك التجربة لا زالت حية، وبقدر ما يعني أنها قد أسهمت في تكوينه وتكوين شخصيته، فالإنسان هو في الحقيقة مجموعة ذكريات تأتلف فيما بينها لتبني موقفه من الحاضر، أو لتبني تجربته الحاضرة، وحين تكون تلك الذكريات جميلة يأنس بها، ويتلذذ بذكرها فهذا يعني أنه لا يرى بأسا من تكرارها. وأما حين تكون حاضرة في لبه ووعيه بحيث تلح عليه إلحاحا مصحوبا بالألم – كما في الشاهر الأخير- فهذا يعني أن تلك التجربة ما زالت حية وأن اعتدادها نوعا من الذكريات هو من الوهم الذي يقنع بها الشاعر نفسه عله يسلو عنها ويتغلب على ما يجد من صدود وهجر، وأنى له ذلك وقد تحكمت من جماع قلبه؟! حين ننظر في الأبيات والمراحل السابقة نجد أن الشاعر في موقعه من محبوبه لا يتحدث عن حالة وصل كاملة في كل الشواهد التي تحدثنا عنها، يرتوي فيها من المحبوب حتى يزول ما به من شوق، وإنما نجد العلاقة دائما محاطة بشيء من «الأجواء» التي تمنع هذا الارتواء وتحول حاجزا دون الشبع والالتقاء الكامل؛ ففي المرحلة الأولى نجده ينظر إلى محبوبه بوصفه أملا بعيدا لا يمكن الوصول إليه، وفي الثانية يحل الشك حائلا بينهما لا يستمتعان بالحب، وإذا كان الشاعر القديم يقول: وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي فإن هذه الحالة من اللاوصل واللاقطع هي حالة من الحب، وليست نفيا له خاصة وأن هذا الشاعر نفسه الذي يحدد أحلى الهوى يقول في بيت آخر محاولا بيان بذرة الحب ونشأته، فيقول: وما الحب إلا غرة وطماعة يعرض قلب نفسه فيصاب فبداية الحب تكون لهوا ثم لايلبث أن يعود جدا، وتتمكن جذوره في نفس العاشق. وأحلاه ما لم يكن صاحبه مطمئنا إلى حب محبوبه، ولم يكن متمكنا منه كل التمكن، لأن جذوة الحب في هذه الحالة تكون متقدة تلهب قلب صاحبها بصهدها. وقريب من هذا المعنى قول الشاعر الآخر: جبل الحب على الجور فلو أنصف المحبوب فيه لسمج وفي المرحلة الثالثة يكون الحب وعلاقاته قد انتهى بوصفه كيانا ثابتا، ويبقى فقط ذكرياته التي قد تكون جميلة نظرا لما صاحبها من فعل جميل ومشاعر عذبة، وقد يكون ولى ولكن ذكرياته لا زالت تبعث في قلبه لواعج الحب، فجمره لا يزال متقدا تحت رماد البعد، وانقطاع الوصل. في هذه المراحل جميعا نجد أن الشاعر لا يدرك الوصل الكامل بمحبوبه، ذلك الوصل الذي ينتج عنه الطمأنينة، ولكنه حالة من البعد أو من الظمأ أو الذكرى والشوق الأبدي الدائم. إنه حالة خاصة مما قبل الارتواء من محبوبه، وهي الحالة التي وصفها ابن عربي ب»الذوق»، وهو حالة تفجأ القلب فإن أقام نفسين فصاعدا كان شربا وإلا فهو ذوق. هذا الموقع الذي يقف فيه الشاعر هو نوع من الوقوف في منطقة الحرمان اللارتواء، والنظر، وهي الحالة التي تجعل صاحبها في بحث دائم وتطلع إلى نظر محبوبه حيث يصبح الري محال كما قال أبو يزيد ال بسطامي.