الرجاء من جميع الركاب وضع حقائبهم في الأماكن المخصصة لها. صوت أنثوي طاغٍ أعلن بنعومة، بلغة عربية مرة، وإنجليزية مرة أخرى، تهيؤ الطائرة للإقلاع. وضعتُ حقيبتي في الأماكن المخصصة لها فوق رأسي. جلست على الكرسي بجانب النافذة, أغمضت عينَي, أخذت ألتقط أنفاسي، ثم أخذت أتحسس جيوبي لأتأكد من وجود محفظتي، عنوان الفندق, والأهم جواز السفر الذي أصبح حمله عبئاً وهماً كبيراً, ربما، للمرة الخمسين. لا بد أن يأتي يومٌ تقضي فيه التكنولوجيا على هذا الهم, هذه الكراسة التي تحمل أسوأ صورة لي ومجموعة من الانحناءات لدول كما يطلقون عليها فيزا. كان من المفترض أن أستقل الخطوط العربية، لكنني لم أجد حجزاً مناسباً إلا عن طريق خطوط سفر أجنبية. كان يجب علي حضور ندوة عالمية عن أصول السلامة، تُقام في نيويورك. دوماً نشعر بعدم الارتياح لترك بلدنا رغم حبنا للسفر واستمتاعنا به. ندفع الغالي والنفيس للسفر، لكن مجرد الإقلاع من أرض الوطن يصيبك بشعور غريب، كالوليد الذي تخلى عن أمه. بدأت مقاعد الطائرة تمتلئ وأنا أدعو الله ألا تجلس بجانبي فتاة؛ فأنا خجول جداً، أرتبك كثيراً. لقد مرت الرحلة بسلام من الدمام إلى أمستردام، وتوقفها لم يطل أكثر من ساعة. الآن نحن متوجهون إلى نيويورك, وهو القسم الأطول في الرحلة، نحو 12 ساعة. كان الناس يمرون من أمامي, ينظرون إلى رقم الصف الذي به مقعدي، ثم ينظرون إلي، وما يلبثون أن يتوجهوا إلى كراسي أخرى. بعضهم يبتسم، وبعضهم يدير وجهه بدون اهتمام. هكذا هم الأوروبيون، لا يهتمون كثيراً بما يجري حولهم, كل شخص مشغول بنفسه, ونفسه فقط. توقفت أمامي امرأة شقراء, بملابس فضفاضة، لكنها تستر جميع جسدها عدا شعرها الأشقر القصير. تبدو في الخمسين، وخلفها رجل أكبر منها بقليل. «هنا عزيزتي» قالها بلطف. هذه لا يقولها إلا الأزواج لزوجاتهم. ومن الدبلة الذهبية في بنصري الاثنين تأكدتُ أنهما زوجان. نظرت إليّ بعينيها الزرقاوين، ثم ابتسمت، وقعدت بجانبي. أخذ الرجل حقيبتها، ووضعها بجانب حقيبتي، ثم قعد على الكرسي بجانب الممر. شعرتُ بالضيق؛ لِم لم يجلس هو بدلاً منها؟ تساءلتُ في نفسي أليس لديه غيرة؟ لكنها كبيرة في السن، وهذا مريح نوعاً ما. كل من أهلي وأصدقائي حذروني من النساء الأوروبيات والأمريكيات، وأنهن يتصفن أما بالغباء أو بقلة الأدب. ربطنا أحزمة السلامة، وأقلعت بنا الطائرة، ثم بدأت المضيفات بتوزيع المشروبات المنعشة، واخترت أنا كوكا. لمحت الرجل يتناول الكحول بنهم؛ فاشمأززت منه. أما زوجته فقد أخذت عصيراً. أنا لم أتناول شيئاً منذ الفجر سوى ما يفترض أنها وجبة غداء في الطائرة. لم أستطع سوى اختراع الماء منها. دعوت أن أنام طوال الرحلة حتى أنسى وجودها بجانبي. لم يعجبني شيء فيها، ولا في زوجها. حديثهما غريب، فأنا لا أفقه إلا الإنجليزية. لم يعجبني عطرهما، ولا حتى ملابسهما البسيطة التي تغيرت ألوانها إثر الغسيل المتكرر. وبعد ساعتين أطلقت معدتي أناتها، ثم بدأت المضيفات بتوزيع حصص الغداء. كنت قد ارتكبت خطأ جسيماً حين حجزت التذكرة؛ إذ لم أطلب وجبة بحرية معها؛ لا أستسيغ أكل دجاج أو لحم من خطوط طيران أجنبية؛ فلا بد من التأكد أنها حلال وتم تذكيتها. حين وصلت إلينا المضيفة وسألتنا واحداً تلو الآخر «دجاج أم لحم». أذكر جيداً أن الرجل اختار اللحم، واختارت هي الدجاج، وحين جاء دوري قلت بصوت فيه الكثير من الرجاء: ألا يوجد لديكم خضار أو وجبة بحرية؟ قالت مبتسمة بعد أن مال رأسها إلى اليمين قليلاً «كلا للأسف. هذا كل ما لدينا على القائمة. إما دجاج أو لحم». هنا أغمضت عيني، واستسلمت لمصيري أن أظل أكابد الجوع حتى أصل. يا إلهي، إنها 12 ساعة، وليس لدي ما أتناوله. هنا ارتفع صوت السيدة الشقراء متحدثة بالإنجليزية, رغم أنها ليست لغتها الأم؛ إذ يبدو أنها هولندية الأصل، قائله: وهل من المعقول أن تتركوا هذا الشاب جائعاً طوال الرحلة؟ (وقتها كان عمري خمساً وعشرين) من واجبكم أن تجلبوا له وجبة؟ ردت المضيفة بأدب «لكن ليس لدينا إلا لحم أو دجاج، ولا توجد في تذكرته وجبة خاصة به؟ ردت السيدة بحزم، ولكن بصوت معتدل النبرة «وإن يكن! هل من الإنسانية ترك شاب جائع طوال ساعات الرحلة؟». «سوف أحاول», هكذا ردت المضيفة، وهربت من أمام هجوم السيدة المباغت. كنت في حيرة من أمري عن السبب؛ لِمَ فعلت هذا؟ شكرتها على صنعيها من صميم قلبي، وبالفعل جاءت المضيفة بوجبة من الدرجة الأولى، وجبة سمك مطهية بصلصة رائعة. حضرتُ الندوة، وتعلمت الكثير، ثم رجعت إلى بلادي وأنا لم أنسَ ذلك الموقف. تعلمت من ذلك الموقف احترام الإنسان أياً كان. أولم يعملنا رسولنا العظيم هذا؟ احترم الجميع وعاملهم كبشر. تعلمتُ أن أكون حريصاً على معاملتهم سواسية, فالناس صنفان إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلق. احترام الإنسان أياً كان دينه, عرقه وجنسه. هنا تذكرت مقولة الشيخ الجليل محمد عبده: «في الغرب وجدتُ الإسلام، ولم أجد المسلمين، وفي البلاد الإسلامية وجدتُ المسلمين ولم أجد الإسلام».