دار بيني وبين أحد الزملاء الطيبين من الإخوة العرب حوارٌ لمست فيه تحسر هذا الزميل على اليمن، الذي سيتقسم إلى دويلات وما إلى ذلك. ومع تقديري لهذا الزميل الذي لا ينقصه الوعي، ولكن قد تنقصه معرفة اليمن من الداخل فيبني رأيه على الانطباعات العامَّة التي تتحدث عن المؤامرة على الوطن العربي لتقسيمه فوق ما هو مقسم، وهو أمر لا ننكره لكن بدايته وفق الإستراتيجيات الدوليَّة لن يكون من اليمن، باعتبار أن اليمن على المدى المنظور لا تمثِّل أيّ خطر إستراتيجي كونها ليست مؤهلة لأن تكون دولة قائدة للنظام العربي. وهذا ليس تقليلاً من شأنها لكن ما عانته خلال ماضيها القريب والبعيد قليلاً يحتاج إلى بعض الوقت كي تستعيد دورها وتلتقط أنفاسها. ناهيك عن أن هذه الترتيبات تعكس إلى الآن حرص المحيط الإقليمي والإجماع الدولي اللذين حتَّى اللحظة يسعيان وفق الملموس إلى ترسيخ استقرار اليمن ووحدته. ومشروع الشرق الأوسط الذي يهدف أساسًا إلى طمس شيء اسمه وطن عربي حتَّى على الخرائط لا يهدف بالضرورة إلى التقسيم الداخلي على مستوى الأقطار العربيَّة الحالية، ولكن الهدف الأساسي إعادة ترتيب ما هو قائم وفق تذويب أقل ما بقى للعرب وهو وجودهم الشكلي في إطار كتلة واحدة اسمها الجامعة العربيَّة وأن يَتمَّ إلحاق دول المغرب العربي بالسوق الأوروبيَّة، وذلك بربطها اقتصاديًّا دون إدماجها بأوروبا، والدفع بمصر والسودان بالاتجاه الإفريقي والذهاب بمن تبقى من العرب في آسيا للدخول في تكتل يضم إلى جانبنا إسرائيل واليونان وتركيا وإيران وهكذا نكون موزعين لا قيمة ولا ثقل لنا في إطار وجودنا الجديد. وهنا يتضح أن الترتيب الجديد لإعادة صياغة الشرق الأوسط ليس غايته تقسيم المقسم وإبقاءه كما على الخريطة، لكن ضياعه إلى الأبد ولا فرق بين أن تكون دولة مثل مصر أو المملكة العربيَّة السعوديَّة في إطار التكتل الجديد مجزأة أو موحدة. وهذا المشروع ليس جديدًا لكن الجديد أنّه كان قد بات أمر تنفيذه واردًا من خلال جماعة الإسلام السياسي الذين قدَّموا تعهدات للغرب بتنفيذ المشروع مقابل تمكينهم من الحكم وهو ما تَمَّ إفشاله بفضل الله وبالتعاون المشترك والمثمر بين المملكة العربيَّة السعوديَّة وجمهورية مصر العربيَّة وهو ما كنت قد أشرت إليه هنا في «الجزيرة» بمقال لي بعد قيام ثورة 30 يونيو ودعم المملكة لها. ويحلو للبعض عن حسن نية أو عن جهل ولآخرين بسوء نية أن يتحدثوا عن تحويل اليمن إلى دولة اتحادية من أقاليم على أن الأمر في ذات السياق مؤامرة أمريكيَّة ومقدمة لتقسيم وتفتيت الدول العربيَّة كافة لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير. وهنا سأحاول أن أدخل مع الجميع في حوار يحتكم إلى قواعد المنطق لكني قبل الدخول في الحوار أحاول عمل بعض الوقاية التي وصفت بالمثل العربي بأنها خير من العلاج وقاية من أولئك الذين أدمنوا تفسير كل موقف وفق نظرية المؤامرة وينظرون إلى الواقع بنظارة سوداء، كما أنهَّم لا يرون دائمًا إلا النصف الفارغة من الكأس وفي مقدمة أولئك الزميل عبد الباري عطوان ومن شابهه. أقول لكل الذين يتباكون على اليمن من الأشقاء وللأسف من بعض اليمنيين هاتوا لي حسنة واحدة من حسنات النظام المركزي في اليمن الذي حوّل الشعب إلى قطاعين أو مجموعتين مجموعة تمارس السلب والنهب ومجموعة منهوبة مسلوبة مستغلَّة وكل محاولات العلاج كانت دائمًا تتمحور في الحكم المحلي الذي أتقن علي عبد الله صالح الالتفاف عليه طوال 33 عامًا وإفراغه من محتواه والإبقاء عليه كورقة من الأوراق التي عادة ما يلعب بها الحكام المفلسون على شعوبهم. ثم بحسبة واقعية وبسيطة ما هو الخطر الذي يمثِّله اليمن على مصالح أي كان في العالم حتَّى يكون هناك سعي لتمزيقه وتفتيته إلى دول، ثمَّ هل يمكن أن تتحوّل اليمن إلى ست دول وما المعايير التي ستقوم عليها دويلات الأقاليم لاستحالة الواقع ذلك وبنظرة سريعة إلى ماضي التشطير القريب بين شطري اليمن نجد أن الدولتين اللتين قامتا كانت كل واحدة منهما تبني إمكاناتها لمواجهة الأخرى وأهدرت كل الإمكانات على العمل الاستخباراتي والعسكري المضاد وشهدنا حربين شطريتين في أقلِّ من عشر سنوات في السبعينيات من القرن الماضي. وعلى الرغم من قيام الدولتين وامتلاك كل منهما كامل شرعية الدَّولة إلا أن الوحدة ظلَّت قناعة مشتركة حتَّى تحققت في عام 1990م. الآن مثلاً هل يمكن أن نشهد قيام جمهورية الجند أو جمهورية تهامة؟ طبعًا هذا أمرٌ لا يقبله عقل ولا عاقل لكن المقبول أنّه ستنشأ في كلِّ إقليم سلطة حكم محلي تدير شئونه وتكون له الأولوية في موارده غير السيادية لينتهي بذلك واقع الاستغلال والتسلّط الذي مُورس من قبل فئة أو قبيلة أو منطقة على بقية أبناء الشعب. سيبقى اليمن واحدًا وجنسية أبنائه واحدة وكيانهم السيادي واحدًا وجيشهم واحدًا وقضاؤهم واحدًا وسياستهم الخارجيَّة واحدة وحق التملك والعيش والإقامة مكفولة لليمني في أيّ إقليم شاء من أقاليم دولته، لكن لن يكون رجل أمن في إقليم الجند من إقليم ما زال ولن يكون هناك محافظ أو مدير ناحية أو مدير مرفق في إقليم تهامة من إقليم الجند وهو التجسيد الحقيقي لمبدأ الحكم المحلي الذي ظللنا نبحث عنه.طويلاً وسننسى أو أتمنَّى أن ننسى تلك الأيام التي كنّا نرى فيه «الأفندم» فلان والشيخ «علان» ينهبون أراضي الدَّولة ويعبثون بمقدرات الشعب في كلِّ منطقة سيكون القرار بيد المواطن وستتسع دائرة المشاركة الشعبية عبر برلمانات الأقاليم وحكومات الأقاليم ولن تكون اليمن حالة شاذة من بين كل الدول الاتحادية في العالم. أتمنَّى أن يعي كل أبناء اليمن والحريصين عليه هذه الحقائق ويتفرغ اليمنيون لبناء الأقاليم وفق مبدأ التنوع والتكامل بدلاً من الانجرار وراء التأويلات والتفسيرات التي لن تزيدنا إلا متاهة وحيرة.