تحدثنا في الحلقة الأولى الماضية عن مشاهدات المستشرق سادلير عندما كان حاضراً مع إبراهيم باشا في حربه مع أهل الرس وهزيمته فيها.. وعما جاء في الوثيقة الثالثة رقم (15) وتاريخ: 23 محرم 1232ه - 3 ديسمبر 1817م.. وفي هذه الحلقة نقوم بالتعليق والتوضيح لما جاء فيها. 1 - يقول سادلير: (قال - يقصد إبراهيم باشا - إنه مصمم على أن يستولي عليها أي (الرس) قبل أن يعطي إذنه بإقامة معسكره وقبل أن يترجل فرسانه عن خيولهم). وأقول: إن إبراهيم باشا عندما توجّه من مصر إلى نجد كان يضع في حسابه أن الرس هي المفتاح للاستيلاء على ما بعدها من مواقع.. ثم إن الرس كانت مسرحاً للعمليات الحربية أيام غارة طوسون باشا على نجد عام 1231ه. حيث اختلف أهل الرس فيما بينهم.. بعضهم يرى التسليم لطوسون وعدم مواجهته لأنهم لا يملكون القوة والقدرة للتصدي له.. والبعض الآخر يرى عدم التسليم ومواجهته بالحرب.. لذا خرج المعارضون للتسليم إلى الشنانة فأغار طوسون باشا عليهم ووجه مدافعه إليهم وحاربهم.. فكانت الرس والشنانة حينئذ مسرحاً للعمليات الحربية. 2 - يقول: (وأن يباشر الرشق المدفعي باتجاه أقوى المعاقل). وأقول: إن أهل الرس بعد غارة طوسون باشا عليها قاموا بتحصين بلدتهم تحصيناً قوياً.. حيث بنوا برجها المرتفع قبل وصول إبراهيم باشا بأشهر قليلة.. وبنوا سورها بأمر من الأمير منصور العساف حيث يتكون من سورين الأول من الخارج وبُني من لبن الطين الأصفر مع التبن والذي يتميز بالالتصاق والتماسك بحيث لا توثر فيه المدافع. وطول اللبنة ثلاثون سنتيمتراً وعرضها عشرون سنتيمتراً, أما السور الثاني فيجاوره من الداخل ويقل ارتفاعه عن السور الخارجي من أجل أن يسير الرقيبة على السور الداخلي للحراسة ومعاينة الأعداء ولا يشاهده من بالخارج. وبين السورين مسافة عشرين سنتيمتراً مليئة بالرمل من أجل أن تستقر فيه القنبلة ولا تنفذ إلى السور الداخلي. هكذا كان أهل الرس يحصنون بلدتهم استعداداً للحرب. 3 - يقول: (ونظراً لكون جنوده مكشوفين ولتعرض رجال المدفعية إلى رشق كثيف من نيران الأسلحة الخفيفة فقد تجاوز القتل في الأتراك عشرة أضعاف ما قُتل من المحاصَرين الذين دافعوا عن المدينة بمعنويات عالية). أقول: عندما عسكر إبراهيم باشا بجنوده في الجهة الجنوبية من البلدة كانوا في موقع مكشوف للعيان، وكان أهل الرس يصوّبون بنادقهم على الجنود من أعلى البرج وسور البلدة وقتلوا منهم الكثير, حيث قُتل في تلك الحرب من أهل الرس (64) رجلاً وامرأة دفنوهم في مقبرة الشهداء الموجودة حالياً داخل موقع السور.. كما قام إبراهيم باشا بحفر نفق طوله حوالي (180) متراً للدخول إلى البلدة ولكن أهل الرس اكتشفوا ذلك وقاموا بتفجيره بذكاء أعجز وحيّر إبراهيم باشا وقُتل فيه من جنود الباشا حوالي (500) جندي.. كما تفيد وثيقة أخرى.. كما أن أهل الرس كانوا يصنعون ملح البارود في موقع مشهور يُسمى (الجريف) ويجمعونه للحرب.. كما أن أهل الرس يدافعون عنها بمعنويات عالية لأنهم يرون بأن دفاعهم عن بلدتهم جهاداً يُثابون عليه. 4 - يقول: (وصار الباشا بمعاونة مماليكه يرمي بالرصاص كل جندي يحاول الانسحاب.. وكان نتيجة ذلك أن عانى المشاة التعساء من خسائر فادحة.. وقد أصدر أمره بحرمان أولئك الذين قتلوا من حقهم من الدفن بسبب تأجج غضبه من الهزيمة). وأقول: إن إبراهيم باشا عندما قام بحفر النفق (يسميه سادلير خندق والصحيح أنه نفق) كان يهدف أن يدخل البلدة من أسفل السور ويقوم الجنود بمهاجمة أهل الرس في عقر دارهم ولكنهم لم يستطيعوا ذلك.. حيث كانوا يقاتلون أهل الرس وهم لا يعلمون كيف يكون مصيرهم أمام قوة وبسالة أهل الرس.. ثم إن الباشا كان يجبرهم على الدخول في الخندق الذي تم تعبئته بالرصاص الجاهز للانفجار حتى لا يضطرون للهروب.. ولكن أهل الرس لما علموا بالنفق فجّروه بحيلة لا يعلمها الباشا وجنوده فقتل من الجنود (500) رجل ولكن الباشا أصابه الذهول والغضب من ذلك فأمر بعدم دفن الموتى لعد استطاعتهم الانتصار على أهل الرس. 5 - يقول: (وامتد حصار رَسّ ثلاثة أشهر ونصف الشهر.. وهي فترة أبدى فيها وهابيو رَسّ فناً وعلماً أكثر مما أبداه القائد التركي - ورمى رجال المدفعية ثلاثين ألف قذيفة بلا جدوى.. شيدت منصات من أشجار النخيل إلى ارتفاع مناسب يمكّن الجند من الرمي إلى داخل البلدة وقُرّب المدفع بحيث لامس حافة الخندق). وأقول: بدأ حصار الرس من: 25-8-1232ه - حتى: 12-12-1232ه - أي ثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً.. أبدى فيها أهل الرس - كما يقول سادلير - قوة وشجاعة وفناً حربياً أكثر مما أبداه القائد التركي, وهذا أذهل إبراهيم باشا وجنوده من الأتراك والمصريين والفرنسيين والمغاربة المرتزقة والمستشارين المرافقين له وجعلته يحقد على جنوده ويصفهم بالجبناء والضعفاء, وحدا به ذلك إلى أن يمنعهم من الخروج من النفق، فإما أن يقتحموا القلعة وينتصروا وإما أن يهلكوا داخل النفق. كما أن إبراهيم باشا أمر جنوده بأن يقطعوا النخيل ويعملوا منها منصّة ملاصقة لسور البلدة ليعلو عليها المدفع الفرنسي الكبير (أوبوس) حتى يتمكنوا من رمي البلدة من الداخل بالقنابر والقبوس من ارتفاع مناسب من أجل سرعة سقوطها.. فرموها بثلاثين ألف قذيفة حارقة ولكنهم لم يتمكنوا من إسقاطها بسبب شجاعة أهلها وبسالتهم حيث كانوا يبطلون كل حيلة وقوة يبديها الباشا وجنوده. 6 - يقول: (ثم جربوا هجومين آخرين لكن عدوهم استطاع أن يصدهم في المرتين ويُفقدهم عدداً كبيراً من الرجال). أقول: كان جنود إبراهيم باشا يحاولون الدخول إلى البلدة عن طريق النفق فلم تفلح طرقهم التي سلكوها بسبب تصدي أهل الرس لهم.. وفي مصدر آخر أفاد الباشا أن الجنود طلبوا منه أن يفتحوا بوابة السور ليدخلوا منها ويهاجموا أهل البلدة فسمح لهم.. وعندما فتحوها ودخل عشرون جندياً منهم كان أهل الرس ينتظرونهم بالبنادق فقتلوهم جميعاً قبل أن يتمكنوا من الانتشار.. ثم طلب منه مجموعة أخرى أن يكرروا العملية لكنه لم يأذن لهم. 7 - يقول إبراهيم باشا في وثيقته: (القلعة المذكورة ذات متانة زائدة, كما أن عدد الملاعين الذين فيها كثير). وأقول: إبراهيم باشا يعترف بكثير من خطاباته التي كان يرسلها على والده بأن الرس قلعة حصينة جداً ويصعب الاستيلاء عليها ويحرسها ويدافع عنها من داخلها رجال أقوياء.. كما كان يُسمي أهل الرس بالملاعين والخوارج والكفرة والطائفة المكروهة.. لأنهم منعوه من الاستيلاء على بلدتهم ولم يسلموها له.. بينما يسمي جنوده بالموحدين. 8 - ويقول: (كان جميع المحصورين الذين يُؤلفون عدداً كبيراً من الطائفة المكروهة في المحل الذي جرى الزحف عليه وأنهم منعوا جنود الموحدين برصاص البنادق, وهلك كثيرٌ من العساكر وعليه لم يحصل التوفيق في فتح القلعة المذكورة في هذه المرة أيضاً). وأقول: إن إبراهيم باشا كان يعتقد بأن عدد أهل الرس المحصورين في داخل القلعة كثير، ولا يعلم بأن عددهم (300) رجل فقط.. وأنهم طائفة مكروهة وأنهم هم الذين خرجوا على السلطان.. كما أنه يعترف بأن أهل الرس كانوا بالمرصاد للجنود الذين يحاولون الدخول إلى داخل البلدة.. وأنهم يتمركزون في كل ناحية يرون أنها قد تسبب ثغرة لدخول جنود الباشا منها.. كما كانوا يُبيدون كل من يحاول اقتحام القلعة.. لكنهم كانوا على إيمان قوي وكانوا يسعون لطلب النصر من ربهم.. كما أنهم يرون بأن دفاعهم عن بلدتهم جهادٌ.. كما أن إبراهيم باشا يعترف بأن عدداً كبيراً من جنوده قد هلكوا أمام القلعة, وأنه لم يوفق في فتحها. 9 - ويقول: (عندما أدرك ارتداد العساكر إلى الوراء.. لكونهم ضربوا كثيراً برصاص البنادق أثناء الزحف). وأقول: هذا إبراهيم باشا يعترف بأن جنوده عندما يشتد عليهم ضرب البنادق من أهل الرس يرتدون إلى الوراء منهزمين لأنهم لا يستطيعون أن يتحملوا هجوم أهل الرس عليهم أو تصديهم لهم.. كما أن قادة الجيش التركي كانوا يتصدون للجنود الذين يفرون من المواجهة مع أهل الرس ويرمونهم بالمدفع والبنادق ليقتلوهم, لأنهم في نظرهم خونة وجبناء في انهزامهم. 10 - كما يقول: (وعليه فإن العساكر دخلوا في المتاريس, لأنهم كانوا مضروبين بدرجة زائدة وقد بلغ عدد الشهداء والمجروحين من هؤلاء العساكر خمسمائة نفر.. وجرح خازندار أفندينا المشار إليه والحاج علي آغا, وأطه لي اسماعيل آغا وجولاق حسين آغا الدرمللي من الرؤساء.. وعدد مقدار خمسين من الرؤساء الصغار). أقول: إن جنود إبراهيم باشا كانوا يجدون مواجهة قوية وعنيفة من أهل الرس ليمنعوهم من الاستيلاء على بلدتهم. كما كانوا يلجؤون إلى المتاريس والنفق الذي حفروه لينفذوا من أسفل السور.. وهو يعترف أيضاً بقتل خمسمائة من جنوده وعدد من قادته المشهورين معه من الأغوات الذين ذكرهم في الوثيقة. 11 - يقول إبراهيم باشا: (هذا ولقد جعلت هذه المسألة عبدكم غريق الغم والألم.. إذ إني قرأت أمر ولي النعم بالدموع السائلة من عيني - وفي اليوم التالي ذهبت إلى مرقد أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه, ودعوت لأفندينا المشار إليه ولجنود الموحدين الذين في معية دولته, والآن جارٍ الاستمرار في الدعاء ليكون أفندينا المشار إليه منصوراً). وأقول في ختام التعليق على الوثيقة: إن إبراهيم باشا يجد في نفسه غماً وهماً وألماً شديداً بسبب عدم انتصاره في حربه مع أهل الرس.. وإنه يبكي بكاء مراً من عدم تحقيق النصر, ثم إنه يلجأ إلى القربة بالأولياء مثل قبر أبي أيوب الأنصاري ويدعو بأن ينتصر في مهمته ليكون مقرباً لوليه السلطان.