في وقت يصرّ العالم العربي على التغير، في طبيعة علاقة السلطة بالمجتمع، ومن حيث قدرة مكونات المجتمع الأهلي المختلفة على المشاركة في صنع مصير الفرد والجماعة؛ في الوقت الذي تصنع فيه الجموع العربية مزاجاً ورؤية جديدين للعالم، يطل علينا محمود درويش من خلف الغمام، يلوح للجموع المحتشدة في ميادين التحرير العربية ويبتسم. لو كان محمود الغائب الحاضر هنا لكتب قصيدة جديدة، وربما ملحمة طويلة، يحكي فيها عن عودة الروح، عن عودة مصر وتونس وليبيا، والعرب جميعاً، إلى ذاتهم الحقيقية. أتذكره في زمن الأحداث الكبرى، في وقت الخضات التاريخية المزلزلة كيف كان يتعذب ليكتب قصيدة، مهموماً بواجب الشعر والشاعر في صناعة التاريخ. لكنه ما زال هنا. ففي عيد ميلاده السبعين، ويوم الثقافة الفلسطينية الذي ضرب في يوم ميلاده، منحت الجائزة التي تحمل اسمه (جائزة محمود درويش للحرية الإبداع) في مدينة رام اللهالمحتلة لكاتبين بارزين؛ إسباني وفلسطيني، ساهم كل واحد منهما بطريقته الخاصة في رفع اسم فلسطين عالياً في سماء العرب والعالم. فقد اختارت لجنة الجائزة، التي يرأسها الناقد الفلسطيني فيصل دراج، الكاتب الإسباني الكبير خوان غويتيسولو، كما اختارت القاص الفلسطيني، ابن مدينة القدس (التي يجرى قضمها وتهويدها يوماً في أثر يوم)، محمود شقير للفوز بجائزة درويش في دورتها الثانية. عن الأول قالت اللجنة: «انطلاقاً من قيم محمود درويش تذهب الجائزة إلى الإسباني خوان غويتيسولو احتفاء بجهده الكبير الذي امتد في قرابة 50 مؤلفاً تضمنت الرواية والسيرة والمقالات الصحافية وأدب الرحلات وعبّر عن مقت لكل أنساق القهر والاضطهاد والتزام بالقضية الفلسطينية وجميع القضايا الانسانية العادلة». كما بررت منح الجائزة للقاص الفلسطيني محمود شقير، قائلة إنه في كتابات شقير «تتكشّف فلسطين في مأساتها وصمودها وآفاقها... فهي ماثلة في حكايات الإنسان المقهور الذي يستولد الأمل وفي التمسّك بعالم القيم وفلسطين ماثلة في المجاز الجمالي الذي بنى عليه شقير كتابه «القدس وحدها هناك» حيث القدس هي فلسطين وحيث فلسطين هي الإنسان البسيط المدافع عن ماضيه ومستقبله معاً». اللافت في الاختيار أن الجائزة هذا العام تذهب في الشق المخصص لكاتب غير عربي إلى غويتيسولو الذي كان رفض جائزة الرئيس الليبي القذافي، وأثار حينها ضجة في الصحافة العربية والإسبانية والعالمية لتشديده على الرفض القاطع لقبول جائزة من يد ديكتاتور يحكم شعبه بالحديد والنار. وهو في حفل تسلم جائزة محمود درويش أعاد التذكير برفضه منوهاً: «لقد رفضت تسلم جائزة من مؤسسة الزعيم الليبي معمر القذافي لأنني أرفض أن أتسلم جائزة من ديكتاتور وطاغية، ولكن يشرفني أن أتسلم جائزة محمود درويش». غويتيسولو، الذي أمضى أكثر من نصف عمره مقيماً في مدينة مراكش المغربية، معروف بعواطفه العربية وحنينه الذي يشده إلى الأندلس المتسامحة التي دمرها توق الإسبان إلى قومية متصلبة تحذف من عناصرها كل ما يمت إلى العرق والثقافة العربيين. ويمكن أن نعثر على بلورة لهذه الرؤى والمشاعر في روايته الملحمية «كونت جوليان» التي يتحدث فيها الراوي، من منفاه المغربي، عن ضرورة عودة إسبانيا إلى ماضيها الذي أنكرته، فاتهمت دون جوليان بالخيانة وفتح أبواب إسبانيا للعرب. كما اهتم غويتيسولو، بالدراسات العربية، منجزاً واحداً من الكتب البارزة في دراسة الاستشراق الغربي، مركزاً على «الاستشراق الإسباني» ومرجّعاً صدى كتاب «الاستشراق» للفلسطيني إدوارد سعيد. والمثير في هذه المناسبة أن الطبعة الأولى من ترجمة هذا العمل بتوقيع الشاعر والمترجم العراقي كاظم جهاد كانت قد صدرت عن منشورات مجلة الكرمل التي أنشأها محمود درويش في بيروت عام 1981. إن فوز كاتب كبير بحجم خوان غويتيسولو، معروف بمواقفه الإنسانية وتأييده للقضية الفلسطينية ودفاعه الدائم عنها في الصحافة والرأي العام الغربيين، وكذلك استلهامه لرمزيتها في أعماله الإبداعية، هو بمثابة تشديد على رفعة حضور هذه الجائزة التي يقترن اسمها باسم محمود درويش. من جانب آخر، تذهب جائزة محمود درويش هذه المرة في شقها العربي إلى كاتب فلسطيني في تأكيد على ضرورة تقدير المثقفين الفلسطينيين الذين تحضر فلسطين في أعمالهم بقوة، ويسعى عملهم الإبداعي إلى رسم جغرافية فلسطين التي تتعرض للقضم والتشويه والمحو والتهويد، ويسعى الكيان الصهيوني إلى تهجير أهلها من بيوتهم ومدنهم وقراهم وطردهم خارج وطنهم. ولهذا يبدو اختيار محمود شقير ابن القدس رمزياً في حد ذاته وتشديداً على ضرورة التنبه إلى ما يدور من صراع لتحويل معالم مدينة القدس. فقد سعى محمود شقير، المخلص لشكل القصة القصيرة، في عدد من الكتب التي أصدرها خلال السنوات الأخيرة إلى كتابة القدس في نوع أدبي ينوس بين تسجيل الذكريات والأمكنة والكتابة السردية التي تتخفف من قيود الكتابة الروائية والقصصية. كما أنه في مجموعاته القصصية المتلاحقة، عمل على المزاوجة بين التذكير بالمكان المقدسي وروح الكتابة الفكهة، التي تتخذ من المحاكاة الساخرة أداة للكشف عما يجري من صراع في قلب القدسوفلسطين. من هنا تذهب الجائزة مرة أخرى إلى كتاب مشغولين بفلسطين إبداعاً ورسالة ورغبة في الحفاظ على حضورها في مواجهة رغبة صهيونية محمومة في محوها واقتلاع أهلها وتشريدهم. وينبغي أن نذكر هنا أن الجائزة قد ذهبت في دورتها الأولى الى كل من الروائية المصرية، التي تكتب بالإنكليزية، أهداف سوبف، والشاعر والرسام الجنوب إفريقي برايتن براتنباخ، تقديراً لإبداعهما واهتمامهما الخاص بالقضية الفلسطينية كواحدة من القضايا المركزية للتحرر الإنساني، وهو الأمر الذي يشير بوضوح إلى توجه الجائزة وطبيعة اهتماماتها ورغبة اللجنة التي تشرف عليها في تركيز الضوء على فلسطين وجعل اسم محمود درويش حاضراً على الدوام في الإشارة إلى فلسطين التي مثّلت قلب عمله الإبداعي واحتلت جوهر تركيزه عيشاً وكتابة.