تحلّ الذّكرى الخامسة لرحيل الشاعر الكبير محمود درويش، التي تصادف هذه الأيّام، في ظلّ صمت مطبق يجلّل تجربته الشّعريّة. وقد يكون السّبب وراء ذلك، هو انشغال الشّارع العربي بالثّورات العربية، التي انتصر بعضها نوعاً ما، فيما بقي البعض الآخر يراوح في المكان نفسه، وأمام عينيه يمثل شبح الحرب الأهلية. عام خامس يمرّ على رحيل أمير الكلام، ولم يلقَ هذا الشّاعر الاستثنائي من جمهوره العريض ما يليق به. فلم تحتفل به المؤسسات الثقافية العربية. لم تصدر هناك ترجمات جديدة لشعره، ولم تجرِ طباعة دواوينه. لم تُقَم ورشات عمل متخصّصة لدراسة شعره، ولم تُعقَد المؤتمرات والندوات التي تُعَرِّف بالشاعر، وتسبر أغوار تجربته الشعرية. لن يتوفّر للأمّة العربية موهبة شعرية بحجم موهبة درويش، إلا ربّما بعد مرور مئات السّنين. أمّا الأمم فلا أحد يسأل عن عدد الأثرياء فيها، ولا عمّا تصنعه أو تستورده من بضائع، لا أحد يسأل عن زعمائها، أو صواريخها إن كانت عابرة للقارات كالصّواريخ الأمريكية التي دمّرت العراق، أو عابرة للأزقّة كالتي يستخدمها الصهاينة في تدمير بيوت الصفيح في غزّة. الأمم تُعرَف بمبدعيها، فالأمّة الإنجليزية لديها شكسبير، والأمّة الفرنسية لديها بودلير وبول سيزان وهنري ماتيس، والأمة الإسبانية لديها لوركا وبيكاسو وسلفادور دالي، ودول أمريكا اللاتينية لديها نيرودا وماركيز، والأمّة الهندية لديها طاغور، أمّا الأمّة العربية فلديها امرؤ القيس والمتنبي ومحمود درويش. تمتاز تجربة درويش عن غيرها من التجارب، في كونها التجربة الاستثنائية التي لخّصت مسار الشعرية العربية في العصر الحديث، وقادته نحو أفق الحداثة العالمية. العمل الجبّار الذي قام به درويش، كان بمثابة معجزة، إذ لم نلحظ من قَبْلُ شاعراً عمل على تطوير تجربته بهذا الشكل الكبير، وتطعيمها بهذه المناخات المتعدّدة المتّكئة على أسلافه من الشعراء العرب ومن بلدان العالم. سوف نأخذ بعين الاعتبار هنا، أنّ درويش حين شقّ طريقه نحو العالمية، فإنّه لم يسعَ إلى التّنكّر لواقعه، أو إلى تبديل جلده الشعري، وإنّما شقّ هذا الطريق ووصل إلى العالمية من خلال احتفاله بخصوصيّته، يقول في أحد الحوارات التي أجريت معه: (العالمي أساساً هو العالمي في نصّه الأصلي، بمعنى أن يحمل الشاعر في نصّه الأصلي سماتٍ إنسانية تعني قارئاً من خارج هذه اللغة، أي أن يحمل مشتَرَكاً منطلقاً من خصوصيّة محلّية)*. ولد الشاعر محمود درويش كبيراً، وذلك بعكس ما كان يشاع حول تجربته في الأرض المحتلّة، من أنها تجربة بسيطة قام درويش بتطويرها فيما بعد. ولذلك فإنّ احتفاء الجماهير العربية والنّقّاد والمثقّفين العرب بشعر درويش (الذي كان قبل خروجه من الوطن) لم يأتِ من فراغ. وعلى الرغم من ارتباط تجربة درويش بالتّحوّلات التاريخية الكبيرة التي مرّت بها القضيّة الفلسطينية، إلا أنّه لا يصحّ لنا أن نقول إنّ القضيّة الفلسطينية هي التي توّجت هذا الشاعر على سُدّة الشعر العربي الحديث. في الواقع لقد ضاق درويش ذرعاً بتلك التصنيفات، التي كانت تسمّيه بشاعر القضيّة الفلسطينية تارةً، وشاعر المقاومة تارةً أخرى، أو بالشاعر (الرّمز) كما كان يحلو للسّياسيين أن ينادوه به من ألقاب! كان يكتب، وكان هاجسه الأوّل والأخير منصبّاً على تطوير تجربته، وتوسيع حدود نصّه ليستوعب الجماليات الجديدة، التي كان يعثر عليها في شعاب الشعر والحياة. كان يحلو له أن يسمّى بشاعر الحب مثلاً، يقول: «أتمنى أن أكون شاعر حب، أو أتمنّى أن تسمح لي ظروفي التاريخية في أن أكون شاعر حب، لأنّ شعر الحب هو أجمل ما يمكن أن يُكتَب من شعر»، والسّبب كما يرى درويش هو «أنّ الحبّ لاينتهي»، أمّا»شعر النّضال فابن مرحلة ما وهو ضروري، ولكنّه لا يقدر على الاستمرار». من الأرض المحتلّة انتقل درويش إلى الإقامة في القاهرةفبيروت، ثمّ ذهب إلى تونس عام 1982، فباريس، وأخيراً فقد رجع إلى وطنه فلسطين بعودة ناقصة، ليستقرّ في كلّ من مدينة رام الله وعمّان. في هذه الرحلة الشعرية الطّويلة، وفي هذه المنافي ظهرت قصائد درويش تباعاً، تلك التي واكبت القيامة الفلسطينية في جميع محطّاتها: قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا)، (أحمد الزّعتر) التي تناولت حصار مخيّم تل الزعتر عام 1976، (مديح الظّلّ العالي) و(بيروت)، ثمّ قصيدة (عابرون في كلام عابر) التي كتبها درويش في بداية الانتفاضة الأولى، تلك القصيدة التي تنزّلت على رأس (إسرائيل) كالصّاعقة، وهزّت بنيان الدولة الأكذوبة. وبالفعل فقد ترنّحت تلك الدولة على إثر تلك القصيدة، وسارع قادتها إلى مناقشة ما جاء فيها على أعلى المستويات، وبحثوا أمرها في (الكنيست). بعد عشر سنوات سيكتب درويش قصيدته الأهمّ على صعيد تجربته الشعرية، وهي القصيدة الملحمة (جداريّة محمود درويش). في رام الله وبعد سنوات قليلة على إقامته فيها سيكون درويش شاهداً على ولادة الانتفاضة الثانية،وعلى بطش الصهاينة، الذين أعادوا احتلال المدن الفلسطينية في الضّفّة وقطاع غزّة، وهنا سوف يعيش الاحتلال الجديد، وأجواء الحصار التي ستحيل حياته وحياة شعبه إلى سلسلة طويلة من الكوابيس. ولكنّ درويش لم يستسلم، فقد راح يواجه الحصار بالشعر، يقول: «هذا النّوع من الحصار أثار فيّ نوعاً من الانتقام الشعري. أنت لا تستطيع أن تقاوم هذه القوّة المدمّرة، أو هذا المعدن المسلّح إلا بالسّخرية منه، واللجوء إلى مصادر قوّة داخليّة، هذه المصادر تنخرط في البحث عن قصيدة مضادّة لهذا الشكل من الحصار، هي القصيدة الهادئة السّاخرة، التي تتأمّل حياتها اليوميّة متحرّرة من ضغط الحصار». في هذه الأجواء كتب درويش قصيدته (حالة حصار). قبل أسبوعين من وفاته، قمت مع مجموعة قليلة من الأصدقاء بزيارته للمرّة الأخيرة، في بيته الواقع في منطقة عبدون في عمّان. استقبلنا أمير الكلام بكل روعة وشاعريّة، وقام بإعداد القهوة بنفسه، وقدّمها لنا، كما قدّم نوعاً لذيذاً من الشّوكولاته. جلس أمير الكلام وخضنا معه أحاديث شتى عن الوطن والشعر والحبّ. كان ارتباكه واضحاً، خاصّةً من جهة مرض القلب والشرايين الذي يعاني منه، قلت مبدّداً ذلك الارتباك: «أستاذ محمود أنا أعتقد أنّ الشاعر يمرض فقط حين لا يكتب شعراً جميلاً، وبما أنّك تواصل الكتابة بكل هذه الروعة والجمال فأنت غير مريض، أدعوك إلى رمي الأدوية جميعها». ابتسم درويش، ولكنّه سرعان ما قال لي إنّ الأمر هو أبعد من هذا التبسيط.حين غادرنا منزله، أمسك بيدي وقال «يوسف اجعلها بعودة». لم أرجع إلى بيته لأنّ درويش غادر بعد يومين إلى فلسطين، ثمّ ذهب في رحلته المدمِّرة إلى هيوستن في الولايات المتّحدة الأمريكية. يا إلهي لقد مات وخلّفني بكامل يتمي. * كلام درويش الوارد في هذه المقالة مقتطع من عدد من الحوارات التي أجريت معه،والتي ضمّها كتاب (محمود درويش/ سنكون يوماً ما نريدُ)، من إعداد مهنّد عبد الحميد، والصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2008م - فلسطين [email protected]