صدر عن دار مدارك (2012) كتاب يحمل هذا الاسم لكاتبه سمير محمد. وقد أشار الناشر إلى أن «اسم المؤلف اسم مستعار، وليس حقيقياً، ولكن أحداث القصة كلها حقيقية، والمؤلف نفسه هو صاحب القصة». وقد شكر المؤلف في ختام الكتاب «.. دار مدارك والأستاذ منصور النقيدان لتفاعله واهتمامه وحرصه على نشر سيرته المتواضعة - كما يقول - وتقييمه لها قبل نشرها»، وقال إنه مستعد لنشر الجزء الثاني عندما يجد تفاعلاً من القراء. وفي الحقيقة، إنني قرأت الكتاب البالغ (527) صفحة في فترة وجيزة، وتألمت لما تعرض له وأمثاله (اللقطاء) من ظلم المجتمع وإنكاره لوجودهم بل احتقاره ونبذه لهم. فيصف حالته وأمثاله عندما كانوا في دار الرعاية الاجتماعية «لن يعي مرارة (الجفاف العاطفي) إلا من عاش على هامش المشاعر الإنسانية (كاللقيط)، يستجدي المشاعر من مجتمع لا يؤمن بأهمية المشاعر، ولا يؤمن بالبوح أو بوجدانية وعواطف الإنسان التي تقتلها الجلافة، ويئدها الكبت، ويؤلمها الحرمان، وتكبحها نرجسية وطبقية المجتمع». بهذه المقدمة بدأ المؤلف أو على الأصح السارد بعرض قضيته ومن يماثله بألم بالغ، بدءاً من دراسته الأولية في دار الرعاية، ووجود مراقبين ومدرسين غير مؤهلين، بل قد يبلغ بأحدهم أن يتحرش بالطلاب الصغار الذين لا حول لهم ولا قوة. فهو لا يألو جهداً في كيل مديحه «.. وشكره للدولة التي لها أفضال كثيرة على (اللقطاء)، ولها مكانة خاصة في قلبي، وأكن لها حباً ووفاء وانتماء جراء ما قدمت لي من مميزات منذ نعومة أظفاري « ص61. ولا يلبث أن يعود ليذكرنا بالأخطاء التربوية التي تمارَس بدار الرعاية، فيذكر أن أصحاب البشرة السوداء يمارَس ضدهم تمييز عنصري مزدوج، فلا أحد يستضيفهم من الأسر في الإجازات الأسبوعية. وعند بلوغ عمر الطفل اثنتي عشرة سنة يُفصل الأولاد عن البنات بدعوى عدم الاختلاط؛ ما يؤثر في نفسيات الأطفال ويفقدهم الحنان، فقد تعودوا على تعامل النساء وعطفهن، وعند انتقالهم إلى القسم الرجالي يصابون بفراغ روحي وجفاف عاطفي مزعج، ينعكس سلباً على نفسياتهم. أثناء دراسته في المرحلة الثانوية بدأ يتدرب على لعبة (الكاراتيه والتايكوندو) فكان عنيفاً ضد الخصم متهوراً منتقماً من المجتمع بسبب الفعل وردة الفعل. وسريعاً ما ندم بعد أن عوقب وشُطب من اللعبة، فاتجه لإثبات الذات من خلال المذاكرة والتركيز على المطالعة الحرة والاعتماد على النفس، ووضع أمامه شعار (أكون أو لا أكون)، فأصبح سلاحه القلم والعلم والمعرفة والتفوق والصمود أمام ظلم المجتمع وإقصائه لمجهولي النسب، بعد أن رأى بعض ضعاف النفوس يغرون بعض زملائه بالعمل مجرمين وموزعي مخدرات وسارقين وقطاع طرق ومتسولين مستغلين (اللقطاء) ليس حباً لهم أو رحمة، إنما ليكونوا جسوراً ووسائل تحقق لهم مآربهم. وقال إنه أمام تحدٍّ بين الإقدام والإحجام؛ ولهذا قال: «.. قررت أن يكون سلاحي السلمي لمجابهة قمع وظلم وتسلط المجتمع هو التسلح بالعلم والمعرفة والانتصار على الذات، والتغلب على الظروف مهما كانت قاسية ومؤلمة». بعد أن تخرج من الثانوية بتقدير ممتاز تقدم للكلية الجوية فرُفِض رغم أن الشروط منطبقة عليه.. وبعد مراجعات عرف أن السبب أنه من أبناء الشؤون الاجتماعية من (مجهولي الأبوين). فذهب للجامعة، وكان يرغب في دراسة علم الاجتماع فلم يوفق، فاختار علم الإدارة، وتم إسكانه مع غيره في سكن الطلبة المغتربين وأبناء دار الرعاية فلم يناسبه وضعهم وسلوكهم فرغب في السكن بمفرده خارج حرم الجامعة، وسبق له أن تعرف على امرأة فاضلة (أرملة) فكانت تستضيفه ليلعب مع ابنيها آخر الأسبوع، وتوثقت علاقته بها فعلمت برغبته في الخروج من سكن الجامعة فاستأجرت له شقة، واشترت له سيارة، وعندما علمت برغبته في البحث عن عمل يشغل فراغه في غير وقت الدراسة وجهته لأسرة ثرية متغطرسة عاملته باستعلاء وفوقية عندما علمت أنه (لقيط)، فتعارك مع ابنهم الذي سخر منه ولم ينقذه من سطوتهم سوى جدتهم التي خلصته منهم، ووفق بعد ذلك برجل أعمال عامله كابنه، ووثق به، وعيّنه مستشاراً ومشرفاً على القوى العاملة في جميع فروع الشركة، وأسكنه بجناح خاص بقصره، وأعطاه سيارة؛ ما أوغر عليه صدور أبناء وأشقاء التاجر الذين كانوا على خلاف معه. انتهى من الجامعة بتفوق؛ إذ أصبح الأول على دفعته، وحضر التاجر كولي أمر له حفل التخرج، فأصبح يسافر معه لمقابلة أصحاب الشركات والمصانع حتى أتقن العمل، ووجد كل عطف ورعاية من زوجة وابنة التاجر وابنهم المريض (منغولي)، ولم يدم الوفاق؛ إذ توفي التاجر، فهجم أبناؤه وإخوته على الشركة والقصر فاحتلوه، فذهب خلسة لإخراج الوصية من مكتبه وعندما ذهب للقصر لأخذ مستلزماته وسيارته هجموا عليه كلص وأوسعوه ضرباً. فتولى القضاء الحكم عليهم وتبرئته، فذهب ليعمل في قاعدة عسكرية مسؤولاً للموارد البشرية، لكنه وجد المسؤول أنانياً متسلطاً لا يؤمن بالتطوير؛ فتركه ليلتحق بشركة كبرى في الجبيل، ويثبت وجوده، وينال ثقة المسؤولين فينتدبونه لدورة تدريبية بكندا لمدة سنة، فيتعرف بالمصادفة على طالبة دراسات عليا مع شقيقها المحرم لها، وتتعمق علاقتهما رغم معرفتها بأنه لقيط، ويتعرف بعد عودتهم على شقيقها الآخر الطبيب الذي رحّب به، ولكن الوصي (أخاهم الأكبر) رفض خطبته لأخته بقوة؛ ما أثر في نفسه، وبقي منعزلاً في منزله، وأهمل نفسه وصحته، وقرر أن يذهب إلى الخُبر لعل البحر يبعد عنه ما يشعر به من ضيق، وكان يفكر في الهجرة ليعيش خارج الوطن، فنجده يقول: «.. حاولت أن أقنع نفسي بأنه مهما قسا عليّ مجتمعي فالوطن يستحق مني التضحية والبقاء؛ فللوطن أفضال عليّ لا تعد ولا تحصى؛ فقد وفر لي الوطن الذي أحببته حد العشق الكثير، وحتى لو جار عليّ مجتمعي فيظل الوطن أغلى من نفسي، وقد قيل بلادي وإن جارت علي عزيزة.. وأهلي وأن ضنوا علي كرام». في الطائرة، وبالمصادفة كان من بجواره يقرأ كتاباً لفت نظره، عنوانه (هكذا هزموا اليأس) للمؤلفة السعودية (سلوى العضيدان)؛ فاستأذن بتصفحه، وبمجرد وصوله ذهب للمكتبة ليقتنيه، وبعد قراءته قال: «.. وقد تحولت نفسيتي إيجاباً 180 درجة من التشاؤم والإحباط إلى التفاؤل والفرح والإقبال على الحياة.. «. وتحولت نظرته للحياة إلى النظرة الوردية الإيجابية فبدأ بنشر ثقافة التسامح وبناء جسور من الحب مع كل إنسان.. وقرر العزوف عن الزواج والعمل على نشر المفاهيم التي آمن بها، وأولها معالجة التعصب القبلي بالوعي، ونزع الأقنعة التي يلبسها الغير من خلال المجاملات والنفاق الاجتماعي، واستبداله بمجتمع منفتح، يسقط تلك الأقنعة؛ لترى الوجه الحقيقي، ولا يجاملونك بكلام نمطي عابر فيه، شيء من الإنسانية عندما يعرفون أنك (لقيط أو مجهول الأبوين). ويقول إنه والمجتمع يسيران في خطين مستقيمين، لا يمكن أن يلتقيا، فالعلاقة تتسم بالتنافر والعقوق؛ لم يقبل المجتمع بوجوده أو يؤمن بآرائه، ولم يقبل هو بهم أو يؤمن بآرائهم. ويقول إن هناك من أبناء القبائل من يتبوءون مراكز علمية وأكاديمية يوافقونه في الرأي، ويؤيدون وجهة نظره في الخفاء، ولكنهم لا يملكون الشجاعة في البوح بها علناً في محيطهم القبلي. ويختتم الكتاب باعترافه بأخطائه التي أقلع عنها؛ إذ كان يمارس حقداً على المجتمع بسبب انعكاس الإقصائية التي مارسها ضده، وقد ندم أخيراً؛ إذ كانت فترة مراهقة انفلتت فيها أعصابه نتيجة لردود أفعال نفسية محبوسة داخل أعماقه، وهو يحمد الله أنه أقلع عن تلك الأفعال العدوانية، وابتعد عنها، وتسامح مع نفسه ومع مجتمعه، وآمن بواقعه. وقال إنه أعاد رسم خريطة لحياته من جديد، التي فتحت له آفاقاً واسعة، غيّرت من أنماط تفكيره، فحولته من إنسان موغل في التشاؤم والقنوط إلى إنسان مفعم بالتفاؤل والأمل، وقال: «.. وبفضل القراءة وصلت إلى قناعة تامة بأن الحياة لا يمكن أن تختزل في زاوية مظلمة، بل فيها زوايا مضيئة لمن رغب أن يكون شخصاً إيجابياً في الحياة.. «. وقال إنه رفع شعار «ليس مهماً من أكون، لكن الأهم كيف أكون». وتعلم أن النجاح والطموح والإبداع لا تعترف بالحسب والنسب أو بالمكانة الاجتماعية؛ فهناك الكثير من المشاهير والعمالة من «مجهولي الأبوين» كزياد بن أبيه، والرسام المشهور برناردوا دافنشي الذي قام برسم لوحة (موناليزا)، كذلك الفيلسوف الهولندي أراراموس، والأديب الكسندر ديماس الأبن. وأخيراً «.. فمن حقي (كلقيط) الثورة ضد الاستبداد والظلم الجمعي، لكن الفرق أن سلاحي سيكون سلاحاً سلمياً متمثلاً في القلم، والكلمة الصادقة، والحجة الدامغة, والشواهد المنطقية الواضحة.. «. وقال: «.. لا أعلم ماذا يريد المجتمع من شخص كلما أراد الاندماج مع المجتمع، أو مصاهرته، أخرج المجتمع ضده كارتاً أحمر، وفورمان وقانوناً اسمه (عدم تكافؤ النسب)؟ فأنا لست ضد المجتمع كأشخاص وكبشر، لكنني ضد سلوكياتهم الطبقية والإقصائية التي يمارسونها ضد من لا حسب ولا نسب له وفي عرفهم (أنه ضائع أصل)؟! ما زلت متسامحاً مع مجتمعي محباً لوطني ولرموزه، أحمل في يدي غصن زيتون لمجتمع ظلمني حد التشفي، ولا يمكن أن أمارس ما مورس ضدي من طبقية واضطهاد، لسبب مهم من وجهة نظري، هو أنني لا أريد الانتقام لنفسي، ولا أريد أن أكون ردة فعل لأفعالهم الإقصائية البشعة ضدي..». [email protected] الرياض