بلاد بها كنا ونحن من أهلها إذ الناس ناس والزمان زمان الإنسان حينما يخلو بنفسه في جو يسوده الهدوء، ويخلد إلى الراحة خالياً من هموم الحياة ومتاعبها، قد يأذن لشريط حياته بأن يتحرك أمام مخيلته ليعرض بعض ما يحلو له من ذكريات أو مواقف خاصة..، بدءاً من زمن الطفولة وذكرياتها الحلوة وما يتخللها من ذكريات جميلة ظلت خالدة ومقيمة في طوايا نفسه، فمن أحلى أيام حياتي ولياليها ذكريات الدراسة في دار التوحيد بالطائف والدار جامعة لنا معشر طلابها عبر أكثر من ستة عقود من الزمن: بلاد بها كنا ونحن من أهلها إذ الناس ناس والزمان زمان فجوها جو جد وتحصيل علمي وأدبي، وتآلف منقطع النظير بين طلابها، ولا سيما المغتربين منهم عن أهليهم وعن أوطانهم - آنذاك - الذين يضمهم ويحتضنهم سكن واحد يسمى (القسم الداخلي أو مهجع الطلاب) فإننا نعيش فيه طيلة أيام الدراسة كأخوة متحابين متآلفين - وكل غريب للغريب نسيب - فما أحلى تلك الأيام ولياليها في خواطرنا بعيدين عن مشاغل الدنيا..، فطلابها في ذاك الحين يجدون كل الاهتمام والرعاية التامة بهم من لدن مؤسسها عام 1364ه جلالة الملك عبدالعزيز - نور الله جدثه وغفر له - وبإشراف فضيلة الشيخ العلامة محمد بن عبدالعزيز المانع مدير المعارف العامة، ومديرها عامي 71 /1372ه الشيخ المربي عبدالمالك عبدالقادر طرابلسي، وقبله الشيخ محمد بهجة البيطار - رحم الله الجميع -، ومن اهتمامات جلالة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - بدار التوحيد الفريدة في وقتها أن أمر بجلب نخبة من فطاحل علماء الأزهر، وخصص لطلابها مكافأة سخية مع تهيئة سكن داخلي للمغتربين، وبجانبه مطبخ خاص لإعاشتهم يقوم بتهيئته شخص من أمهر الطباخين يدعى: حسن بخاري، ومساعده سعد أبو شرف، كما خصص سيارات لإحضار الطلاب من مدن وقرى نجد إلى المدرسة، ثم إعادتهم إلى بلدانهم نهاية كل عام دراسي، ويعتبر كل ذلك ضرباً من الرفاهية والترغيب لطلابها في ذلك الزمن المتباعد الذي نيف على أكثر من ستين عاما، كما أن البعض من طلابها لا يبرح مدينة الطائف فترة الإجازة الصيفية حُباً في الاستمتاع بتلك الأجواء الباردة الجميلة، ولاسيما في أشهر رمضان المباركة، ومن أولئك الزملاء: الزميل الحبيب عبدالرحمن بن عبدالله العبدان - شفاه المولى ومتعه بالصحة التامة - ولقد قُدر لي الحضور بعد أداء الاختبار النهائي في المرحلة الثانوية بالمعهد العلمي في الرياض عام 1374ه إلى مدينة الطائف تشوقاً إلى بعض زملائي بدار التوحيد عام 71 /1372ه فألفيت على الزميل عبدالرحمن (أبو نجاة) الذي كان يسكن في منزل خاص بحي (قروى) الذي يعتبر ملتقى للفيف من الأصدقاء والزملاء، وسكنت معه أنا والأخ سليمان بن عثمان المضيان - رحمه الله - طيلة شهر رمضان، وعشنا في أجواء روحانية نؤدي صلاة العشاء والتراويح في مسجد عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - وأحياناً في مسجد الهادي الواقع في وسط البلد على مقربة من برحة القزاز..، وبعد الصلاة نقوم بجولة في بعض الأسواق والمحلات مروراً على مكتبة الأستاذ محمد سعيد كمال أو مكتبة امؤيد - رحمهما الله - المشهورتين فنتصفح بعض الكتب والقصص..، وأحياناً نذهب للسلام على الشيخ عبدالرحمن آل الشيخ إمام وخطيب مسجد ابن عباس - رحمه الله - والد زميلنا محمد فنستفيد من أحاديثه الشيقة وتوجيهاته الأبوية، ومرة نذهب إلى منزل والد الزميل الكريم حمد بن ابراهيم السلوم - رحمه الله - لنأخذه معنا متجهين إلى بعض المقاهي المنتشرة في أنحاء الطائف ونجلس على (المركاز) سرر تعمل من حبال وأعمدة خشبية، ثم نطلب براد شاي يتكون من ستة أكواب أو أكثر حسب عددنا..، ونأخذ في تجاذب الأحاديث الودية والطرائف الأدبية، والتعليق على بعض الأشخاص في سلوكياتهم المختلفة..، إلى أن يحين موعد السحور فيذهب كل إلى جهته ومنزله، فيمر الأخ عبدالرحمن العبدان وفقه الله على المجزرة الواقعة على مرتفع باب الريع التي لا تزال موجودة حتى الآن، فيشتري قليلاً من اللحم لسحورنا، وهكذا نقضي ليالي الطائف في يسر ومسرات ولم يبق من تلك الأيام والليالي سوى رنين الذكريات، وكل واحد منا يتمنى عودة تلك الأزمان، ولكن هيهات هيهات: وليست عشيات الحمى برواجع عليك، ولكن خلّ عيناك تدمعا - حريملاء فاكس 015260812