برحيل الخال والوالد اللواء المتقاعد محمد بن عساف حسين العساف، ودَّع الوطن واحداً من أخلص رجاله، وصاحب التاريخ الذهبي الذي إن طويت صفحاته من الوجود فستبقى مفتوحة في ذاكرة الوطن، إذ من الصعوبة بمكان أن يسقط مخلص وفِيٌّ أفنى كاللواء العساف من ذاكرة بلاده، وهو الذي أمضى عمره على ثغر، وشهد له بالأمانة والنزاهة والصدق كلُّ من عرفه من قريب أو بعيد. بدأ راحل الوطن الكبير حياته الزاخرة بالإنجازات في إدارة إمارة رماح عام 1370ه، التي التحق بالعمل بها نحو أربعة أعوام، حتى عام 1374ه الذي كان موعد انضمامه للقطاع العسكري في المنعطف الثاني من حياته الذي كان شاهداً على واحدة من أكثر السير نصاعة واجتهاداً وأمانة في أداء الواجب الوطني على خير ما يكون. تدرج الراحل في الرتب العسكرية حتي وصل إلى رتبة لواء، وعلى مدار حياته العسكرية تقلب بين دوائر ثلاث كان عمله متشعباً بينها؛ فشغل منصب رئيس قسم البحث الجنائي ورئيس مجلس التأديب ومساعد مدير شرطة الرياض للشؤون المالية والإدارية، إلى أن انتدب في عام 1384 للعمل في ديوان المظالم للتحقيق في قضايا الرشوة حتى أحيل إلى التقاعد برتبة لواء عام 1400ه، وهو التاريخ الذي شهد المنعطف الثالث من حياة الفقيد الذي قرر ألا يستريح وأن يواصل رسالته الحقوقية من منصة القضاء الواقف، فبدأ عملاً خاصاً في السلك القانوني، أحسن فيه البلاء قبل أن ينتقل إلى العمل التجاري الذي كان الفقيد يقول إنه لم يوفق فيه. حياة ثرية عاشها راحل الوطن الذي شهد له الجميع بالأمانة والثقة، بدأها يوم حصل على بكالوريوس الحقوق من جامعة دمشق، فظلت الحقوق همه في هذه الحياة، مرة ردها إلى الناس من كرسي العسكري، ومرة من كرسي ديوان المظالم، وأخيراً من كرسيه في عمله الخاص بعد إحالته للتقاعد. وكان الراحل ممن أسعدهم شرف لقاء المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود مرتين، وكانت له عباراته المشهودة, آراؤه التي تناقلها عنه جلساؤه، وكانت له نظرته العميقة التي تكشف عن بواطن الأشياء وجوهرها، فحين سئل عن الملك عبدالعزيز قال: «جعل البلاد آمنة بعد الخوف»، وحين سئل عن الملك سعود ركز على «اهتمامه بالبنية الداخلية للبلاد وما تحقق في عهده ونهضة تعليمية عالية»، وحين ذكر له الملك فيصل تحدث عن «سياسته الخارجية وتحديه للعالم ومقولته: نعيش على التمر واللبن»، وحين ذكر له عهد الملك خالد تحدث عن «الرخاء الشامل والنهضة العمرانية»، وحين ذكر له الملك فهد تحدث عن «التوسعة الكبرى للحرمين وطباعة المصحف»، وحين سئل عن الملك عبدالله تذكر «مواقفه السياسية التي يشار إليها في العالم واهتمامه بطبقات المجتمع خصوصاً الفقيرة». وكان الفقيد يرى أن من أبرز صفات الملك عبدالعزيز «الحكمة والدهاء والشورى»، وأن من أبرز صفات الملك سعود «الحلم والكرم والتواضع»، وأن من أبرز صفات الملك فيصل «الحزم والقيادة والحكمة»، وأن من أبرز صفات الملك خالد «الأناة والقرب والصبر»، وأن من أبرز صفات الملك فهد «الحكمة والمشاركة والحزم»، وأن من أبرز صفات الملك عبد الله «التواضع والحنكة والصبر». ولم يكتف الراحل بمآثره التي شهدت بها أعوام خدمته الذهبية، فآثر أن يترك وصية للشباب من العسكريين في آخر لقاء أجراه الراحل على صفحات مجلة مناسبات، أوصاهم فيها بأن «يصدقوا مع أنفسهم ليصدقوا مع بلدهم، وأن يخلصوا ليُخلص لهم، وأن يحصروا ذواتهم في نطاق طاعة الله ورسوله ولا يطلقون العنان لأنفسهم». أصدق الدعوات بالرحمة لراحل الوطن الكبير، الذي بقدر ما ملأ تاريخه عطاء ووفاء لوطنه ملأ سيرته بيننا نحن أبناءه حباً وحنواً وتفقداً لحالنا جميعاً صغاراً وكباراً، وحرصاً علينا وعلى ذرارينا، فلم يبخل علينا بعطاء، ولم يتأخر عن واجب، فكان بحق نعم الخال الوالد القدوة للجيمع، والمفخرة أيضاً للجميع. سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يتغمد فقيدنا وفقيد الوطن برحمته، وأن يسكنه فسيح جنته، وأن يلهمنا جميعاً الصبر على هذا الفقد العظيم، وأخص بالذكر الوالدة التي نالها عظيم المصاب بفقد أخيها وقرة عينها في هذه الحياة، فلطالما كان الأقرب إلى قلبها، والأعز على نفسها، والأحب إلى روحها، فالصبر الصبر يا أمي الغالية.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. - رئيس تحرير مجلة مناسبات