كما لا شك فيه، بأن قدرة الأسرة على القيام بهذه المسؤولية الاجتماعية باتت محدودة، لا بل عاجزة في حالات كثيرة. إن التنشئة الاجتماعية عملية طويلة وبطيئة ومعقدة، يتم خلالها إشباع حاجات الطفل الغريزية بشكل أساسي خلال سني الرضاعة والحضانة وفقاً لوضعية أسرته وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية والروحية والثقافية. تهدف التنشئة الاجتماعية إلى تحويل الفرد من كائن بيولوجي إلى شخص اجتماعي يجيد اللباقة في التصرف مع الآخرين في محيطه الاجتماعي. ويصح القول في التنشئة الاجتماعية بأنها عملية تكيف مع الثقافة التي يترعرع في أحضانها هذا الطفل بغض النظر عن نوعية وتطور هذه الثقافة ، فالطفولة عند الإنسان هي التطبيع والتثقيف بدءاً من لحظة انبثاق الحضين من تيار بني جنسه عندما يقذف به في خضم عالم مزدحم بثقافة سريعة، لا بل متسارعة في النمو والتغير أفقياً وشافولياً وبسرعة مذهلة,, إن من أهم المشكلات المزمنة في الثقافة إحداث تكيف أمثل مع هذا العالم المعقد والمنفتح. حقا، إن التنشئة الاجتماعية في جانب هام منها، هي إشباع حاجات الطفل إشباعاً كافيا، وليس أبداً إشباعاً مطلقاً بدون حدود,, فالطفل لا ينمو في فراغ، وإنما ينمو في مجتمع يهدد كل فرد من أفراده بأنواع شتى من الحرمان والإحباط. والطفل كلما تقدم به العمر تزداد عليه الضغوط الاجتماعية وتتناقص عنه الحماية الأسرية، فتتضح مسؤوليته الشخصية وحاجته للتكيف والتوفيق بين أناه الفردي بكل مافيه من غرائز وذاتية، وأناه الاجتماعي بكل متطلباته التي قد لا تتفق مع مصلحة هذا الطفل /الفرد, لذا يتوجب على الأسرة تعويد الطفل شيئا فشيئا على الانتظار والصبر والاحتمال قبل إشباع حاجاته، وبهذا يكتسب صلابة في نموه حتى يصل إلى مستوى الاعتماد على النفس، والقدرة على الانضباط والاستقلالية. فالطفل، كل طفل ملاحق اجتماعياً، يراقبه وهو يهم بإشباع حاجاته، فلا يسمح له بإشباع كل رغباته، لابل يرغمه على الحدّ منها. والمجتمع يقر ضروباً معينة من السلوك: كالتعاون والإيثار ويحرم ضروباً أخرى مثل العدوان والتخريب والأنانية, فلكل مجتمع، ولكل ثقافة معايير اجتماعية مميزة. لا تكون التنشئة الاجتماعية عفوية، خبط عشواء، إنما هي تربية مقصودة، ومعيارية، تساعد الفرد على الاستدماج في ثقافة مجتمعه، لكي تصون التركيب الاجتماعي وتؤيده، حتى تغذو هذه البيئة الاجتماعية/ الثقافية، بالنسبة لهذا الطفل كالهواء الذي يتنفسه، ولا يرضى عنه بديلا، ولا يجد منها فكاكاً حتى ولو هجرها إلى بيئة أخرى. يرى المفكر الفرنسي (اميل دركايم) بأن التربية جهد متواصل يأخذ به الطفل ألواناً من الفكر والعاطفة والسلوك التي ما كان ليتمكن الوصول إليها لو ترك وشأنه، فالأسرة ترغمه في حداثة سنه على الطعام والشراب والنوم وضبط المثانة والأمعاء، والنظافة، والنظام، والطاعة، ومراعاة حقوق الغير، واحترام العادات والتقاليد، وتكليفه ببعض الأعمال التي تطيقها طاقته وميوله، وهكذا تقهر فرديته اجتماعيا كلما تقدم به العمر، ومن هنا تنشأ لديه بعض العادات والميول الداخلية التي تحاول الالتفاف على هذا القهر (السلطة) الاجتماعي، ومع ذلك تبقى السلطة الاجتماعية أقوى من كل نوع من أنواع الاحتيال التي تجربه فردية الطفل. اذن، يمكننا التأكيد على أن التنشئة الاجتماعية ليست إلى عملية تطبيع اجتماعي، وتكيف اجتماعي، وضبط اجتماعي، وإنها هي بالذات ما يميز الإنسان عن الحيوان ويجعل منه متديناً مؤمناً، أم ملحداً، خلوقاً أم مجرماً، شاذاً أم منحرفاً، فاشلاً أم ناجحاً، مواطناً حقيقياً أم عميلاً. تبدأ عملية التنشئة الأسرية في سن مبكرة جداً، وثمة ثلاث درجات لضبط دوافع الطفل وسلوكياته. *الدرجة الأولى: وتقع في المستوى الغريزي، وأداتها المعيارية الشعور باللذة أو الألم، فالتعلم هنا يتم بشكل شرطي، بحيث يكرر الطفل ما يرتاح إليه ويشعره باللذة والفرح والطمأنينة، فالعادة يتطبع بها نتيجة للتكرار المصحوب بالمتعة والانشارح، بينما ينكفئ عن فعل كل ما يتسبب له بالألم, وبناء على هذه القاعدة يتعلم ضبط المثانة وضبط الأمعاء (طبعاً بعد الوصول إلى مستوى النضج في العضلات المسؤولة عن هاتين العادتين). وشيئا فشيئا تنمو لدى الطفل الأنماط السلوكية المرغوبة اجتماعياً. * الدرجة الثانية: وتقع في المستوى الاجتماعي، عندما تصبح شخصية الطفل نضجت اجتماعياً، فيكون التعلم هنا بواسطة الإيحاء والتقليد. فالأسرة والأقران والأقرباء والأصدقاء هم جميعا وبدرجات متفاوتة مسؤولون عن ضبط سلوكه وتنميطه اجتماعياً، فالفرد في الأسرة: محدد المكانة، معتمد على غيره، آخذ، ناقل، مطيع، خاضع,, وهو بين أقرانه وأصدقائه: معطاء، ودود، يتبادل الأسرار، هادئ، متعاون، متكامل، محب للغير. * الدرجة الثالثة: وتقع في المستوى الثقافي (فوق العضوي)، وهنا تتم عملية الضبط الاجتماعي من خلال تمثل الثقافة الجمعية والآداب الشعبية، وجملة الأوامر والنواهي والأعراق والتقاليد. إذن، تتم عملية التنشئة الاجتماعية باتجاهين: كف وتشجيع، ترغيب وترهيب، وعد ووعيد,, أي أنها بمقدار ما تردع الطفل عن فعل كل ماهو ليس مرغوباً فيه اجتماعياً، تشجع على فعل كل ما هو مستحسن اجتماعياً,, ولقد أكدت الباحثة الانتربولوجية (مارجريت ميد) هذه الحقيقة عندما ذكرت بان بعض قبائل غينيا الجديدة الذين يقدسون فكرة الملكية، وحيث يولون الأهالي وينتحبون عندما يفقدون شيئا,, في هذا المجتمع تعلم الأم طفلها كيف يحترم ملكية غيره، وتكرر عليه باستمرار: هذا الشيء ليس ملكك, دعه على الأرض، انه ملك شخص آخر. ومن نتيجة ذلك تقول مارجريت ميد إن ممتلكاتنا وما نحمله من أغذية وحلوى عادة ما تجذب الأطفال وتغريهم، وكذا أدوات التصوير,, كل هذا وذاك كان بمأمن من عبث الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الثانية والثالثة . تعتبر طريقة (الإيحاء) من أهم طرق التنشئة الاجتماعية فاعلية باعتبارها غير مباشرة,, فالبيت المتدين المحافظ على قيّمه الدينية، يحرص على أن يضع في غرفة الطفل ومنذ ولادته كل الرموز والدلالات الدينية,, وبعد أن يبدأ الطفل بالفهم، تحكى له وبأسلوب يستوعبه القيّم الدينية، ويحرص الكبار على أداء الصلوات وإيتاء الزكاة والقيام بكل الشعائر الدينية بحضوره وعلى مسمع ومرأى منه، ويصطحب إلى الجامع في سن مبكرة وخاصة أيام الجمعة والأعياد، وهكذا شيئا فشيئا تنطبع في شعور الطفل كل تفاصيل الطقوس والقيّم الدينية وما يصاحبها ويلازمها بالضرورة من قيّم أخلاقية ووطنية وعملية وحياتية، وتصبح في نسيجه الوجداني. ومن أهم ما يتعلمه الطفل في الجو الأسري: 1, المشي والفطام، وضبط المثانة، وضبط الأمعاء، والاستحياء الجنسي، وكف العدوان بحق الآخرين. 2, التعود على كبت الدوافع المحرمة اجتماعياً أو تقنينها من خلال إقامة حواجز وعقبات ضد الإشباع المباشر للدوافع الجنسية والعدوانية. 3, الالتزام بالعادات والتهذيب الاجتماعي، واحترام كافة السلطات الاجتماعية، وتعلم الدور المناسب بحكم العمر أو الجنس أو درجة التعليم. 4, الانضباط والتعود على النظام والتنظيم والانتظام بكل شيء. إذن، في أحضان الأسرة يدرك الطفل الصواب من الخطأ، والخير من الشر، والجميل من القبيح، وما يجوز ومالا يجوز. أهمية رعاية الأم في الطفولة الأولى: إن رعاية الأم هي التي تنمي في الطفل إحساسه بالأمن والأمان، وشعوره بأنه محبوب من قبل أمه ومقبول منها في كل حين، وعلى حد زعم (جون بولبي) بأن أساس أو مرجعية الصحة العقلية: أن يخبر الطفل علاقة حميمية مع أمه، وتقارن أهمية هذه العلاقة بأهمية الفيتامينات للجسم. ويضيف (بولبي) بأن الحرمان من الأمومة كالجوع,, فالحرمان الجزئي يصحبه القلق والحاجة الملحة إلى الحب والرغبة الجامحة بالانتقام، والشعور بالإثم والاكتيئاب, فالطفل الصغير الذي لم يكتمل نضجه العقلي والانفعالي لا يتمكن من مقاومة هذه الدوافع، وقد تؤدي استجابته لهذه الاضطرابات إلى أمراض عصبية ونقص لا يعوض في استقرار الخلق, أما الحرمان التام فقد يؤدي إلى إعاقة قدرة الطفل بشكل تام عن إقامة علاقات اجتماعية, وكل طفل محروم من حنان الأم لديه ميل إلى الكآبة والتعاسة، وغالباً ما تنتابه نوبات هسترية من البكاء الطويل والارتعاش عند كل انفصال. بعد انتقال الطفل من رعاية الأم,, أي بعد بلوغه الثالثة من عمره، من المفترض أن يشعر بوجود الآخرين ويتعرف عليهم ، ويقيم علاقات معهم، وخاصة مع الأب والإخوة. والملاحظ أن طفل ما بعد الثالثة من عمره يستطيع البعد عن الأم لفترة أطول كلما كانت العلاقة السابقة قوية وسليمة. فالطفل السعيد الذي يثق بحب أمه له، لا يحس بالقلق أو الخوف من فراقها المؤقت له. فريق من العلماء، ينصح الأم العاملة، بالتفرغ التام لرعاية طفلها على الأقل في العامين الأولين من عمره، وعلى المؤسسات الاجتماعية سواء كانت حكومية أو تتبع القطاع الخاص، أن تمنح هذه المرأة / الأم العاملة إجازة بكامل الراتب لمدة عامين كاملين للولد الأول على الأقل وعام ونصف للولد الثاني وعام واحد فقط للولد الثالث. أهم الأسباب التي تعترض تنشئة الطفل بشكل سليم: 1, خروج المرأة إلى العمل,, إما بغاية توكيد شخصيتها أو لكي ترفع من مستوى المعيشة الأسري,, أو لأنها وحيدة لا معيل لها بعد أن تركها زوجها وتناساها ذووها,, أو للعمل بالأرض لمساعدة زوجها. 2, شدة وطأة الأعمال المنزلية من إعداد طعام، وتنظيف مسكن وغسيل,, فقلما تجد المرأة الوقت الكافي للاهتمام بطفلها. 3, سوء الأحوال السكنية للأسر الفقيرة. 4, الفقر وسوء التغذية. 5, جهل الأمهات بالتربية السليمة. 6, عدم ملاءمة البيت لمتطلبات الطفولة. ومن مواصفات التنشئة الاجتماعية: المرونة والاتزان وهي أيضا تفاعل بين الطفل وبيئته الاجتماعية، بحيث يؤثر ويتأثر، فلا وجود لطفل سلبي تماماً، وإنما الفرق بين طفل وآخر هو في مدى التأثير والتأثر وفقاً لقدراته وحظوظه. فكل طفل لديه قابلية التغير والتطور بمقدار مالديه إمكانية التقهقر. ولكل تنشئة اجتماعية ثلاثة أهداف: الأول إنشائي: والثاني وقائي، والثالث علاجي,, وغالباً ما تكون التنشئة في البدايات إنشائية ثم وقائية، ثم علاجية عندما تلحظ بعض الانحرافات عند الطفل. لكنه، يجب أن لا يفوتنا التنويه إلى أن التنشئة الاجتماعية، وباعتبارها قائمة على التفاعل مع مكونات وصيغة البناء الاجتماعي، فهي تختلف باختلاف الزمان والمكان,, والطبقة والدين والجغرافيا,, وإنها عملية مستمرة لا انقطاع فيها، وإنها عملية إنسانية واجتماعية ووطنية وروحية، ومتشددة مع القيّم الاجتماعية المطلقة، ومرنة مع القيّم الاجتماعية النسبية المتغيرة. الأساليب المثالية للتنشئة الاجتماعية في الأسرة: 1, الملاحظة والتقليد والمشاركة لسلوك الكبار,, ولا بأس من إشراك الأطفال في بعض الحوارات، وتكليفهم أو اختبارهم بالقيام ببعض الأعمال البسيطة, وإفساح المجال أمامهم للتعبير عن مشاعرهم ومواقفهم. 2, القدوة الصالحة (الأب,, الأم,, الإخوة الكبار). 3, الثواب والعقاب: لتعزيز السلوك المرغوب وإطفاء السلوك الشاذ المنحرف ,, والمعيب,, ومما لا شك فيه، هناك أساليب كثيرة للثواب والعقاب، تتوقف نوعيتها وصلاحيتها وجدواها على مستوى وعي الأبوين وظروفهما الفكرية والعلمية والروحية والاقتصادية والنفسية والعلاقة الزوجية والمكانة الاجتماعية. 4, الاستجابة لتساؤلات الطفل الذي يحاول اكتشاف ما حوله ويطلب تفسيراً لما يجري في محيطه الطبيعي والاجتماعي. 5, اصطناع مواقف تعليمية ,, كأن يهيىء الأب مواقف يومية ليتعلم أطفاله منه أهمية الصدق في حياة الناس. بعض الأنماط الخاطئة في التنشئة الاجتماعية: 1, الحماية الزائدة أو التسلط غير المبرر,, في الحالة الأولى يحصل الطفل على كل ما يريده من أبويه، مما يخلق لديه عدم إحساسه بالمسؤولية، فالواقع لن يهبه إلا ما هو جدير به، فمثل هذا الطفل لن يتجاوز طفولته ولن ينضج نفسياً أواجتماعياً, أما في الحالة الثانية، فتشل كل قدرات الطفل، وقد تشكل لديه ردود فعل عكسية جنوحية أو إجرامية. 2, تضارب معاملة الطفل، عندما يعاقب الطفل على سلوك خاطئ غير مقصود منه، ولا يعاقب مثلا على سلوك خاطئ جداً وغير مبرر لا بل ومتكرر,, أو عندما تختلف طريقة الأم عن طريقة الأب,, إلى آخره. 3, التمييز في المعاملة بين الأطفال,, بين الذكور والإنثاث مثلاً,, أو بين أولاد الزوجة الأولى وأولاد الزوجة الثانية أو بين طفل ذكي وطفل أقل ذكاء,, مما يؤدي إلى تشكيل عقدة الغيرة والحسد والكراهية وتصرفات عدوانية انتقامية، ومشاعر الإحباط والاضطهاد وعدم الثقة بالنفس وبالتالي بالآخرين. 4, المغالاة في المستويات المطلقة,, كأن نطلب من أبنائنا أن يكبروا بلا أخطاء,, ويتصرفوا مثل الكبار, وأن تكون لديهم قدرات خارقة في كل شيء,, فقط لأننا لم نصل نحن إلى هذه المستويات ,, ولكي نتفاخر بأبنائنا على الآخرين. أخيراً,, هناك جملة من العوامل التي تؤثر سلباً في التنشئة الاجتماعية الأسرية منها: 1, حجم الأسرة,, فكلما كان عدد الأولاد أكبر تكون الرعاية أضعف وتتضائل اللهفة والقلق على الأطفال، وتكون الفرصة مهيأة للتفرقة بين الأولاد. 2, نوع العلاقة الزوجية التي تنعكس إيجابياً عندما تكون سعيدة على الأولاد وتشكل لديهم شخصيات سوية متكاملة. 3, ثقافة المجتمع ودور السلطات الاجتماعية في نشر هذه الثقافة عبر وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية والروحية والتعليمية. 4, الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها الأسرة. 5, الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأسرة. 6, نوع الطفل ذكر أم أنثى. *جامعة الملك سعود