لم يكن يوم الأحد الثامن من شوال لعام 1433ه يوما كسائر الأيام لمحبي التراث السعودي والمهتمين به بشكل عام، وعشاق تراث منطقة الباحة على وجه الخصوص، ففي ذلك اليوم غُيّبَ جسد أضناه صاحبه بحثاً عن تراث الباحة، وأنهكه تدقيقاً وتحقيقاً، وأرهقه كتابة وتأليفاً، جسد رقد في غيبوبة لأكثر من عقد من الزمان، ولعل رقدته هذه كانت ابتلاء ومحبة من خالقه له جزاء ما قدم لأهله ومنطقته وبلده، إنه علي بن صالح السلوك، وقد كتبت الاسم هكذا غير مسبوق بأية ألقاب، فقد احتار القلم - واحترت معه - في اختيار لقب يقدم به اسم الفقيد الغالي، ولم لا والألقاب كثر وكلها ليست من قبيل التبجيل أو التوقير، بل هى ألقاب تعبر عن حقائق لا مجاملات، هل أكتب الأديب أم الباحث؟ هل أستخدم الجغرافي أم الإداري؟ المحقق في مجال التراث أم العلامة؟، لذا فلو أراد القلم أن يسطر لقباً قبل الاسم لوجب القول: إنه الأديب والمؤرخ والجغرافى والباحث والمحقق التراثي والإداري الكبير ورجل المجتمع الأستاذ علي بن صالح السلوك. والفقيد رحمه الله متوفى عن عمر ناهز الرابعة والسبعين عاماً، فقد كان مولده - رحمه الله - عام 1360ه في قرية قرن ظبى بزهران، ودرس في الكُتّاب لدى إمام مسجد القرية لمدة عامين، وعندما أنشئت مدرسة قرن ظبي عام 1372ه التحق بها وكان لديه رصيد جيد من القراءة والكتابة، حيث حفظ قسماً كبيراً من القرآن الكريم وفي منتصف عام 1372ه انتقل من مدرسه «قرن ظبي» إلى مدرسة «بيضان» على بعد ثلاثة أميال من قريته، ثم واصل دراسته انتساباً، وقد قضى جلّ عمره في خدمة مليكه ووطنه وبالذات منطقته, حيث بذل جهوداً مضنية من أجلها ومن أجل النهوض بها فدون تاريخها، وحقق تراثها، وسجل مآثرها. وقد كان - رحمه الله - وبحق مؤرخاً وجغرافياً ومحققاً للتراث لا يشق له غبار، وتشهد بذلك مؤلفاته التي تركها للمكتبة العربية، والتي كانت ولا تزال مصدراً لا غنى عنه لكل باحث في تراث غامد وزهران، وقد دفعه إلى ذلك عشقه لمنطقته التي كان يؤمن بإسهاماتها القيمة في تاريخنا ولم لا وقد ساهم أبناؤها الأوائل في نصرة الدعوة المحمدية، وفي الفتوحات الإسلامية الأولى، كما أن قبائل زهران من أوائل القبائل التي بايعت قائد الملك عبد العزيز في تربة. وباطلاعه وقراءاته رأى أن كتب التاريخ والجغرافيا لم توف منطقته ما تستحقه فأخذ على عاتقه تلك المهمة التي لم تكن يوما يسيرة، وبدأ في عام 1381ه في جمع المعلومات المتعلقة بمنطقة غامد وزهران، وحدث في أوائل عام 1390ه أن زار منطقة الباحة العلامة الشيخ حمد الجاسر واجتمع معه وطلب مشورته في كتابة تاريخ موجز عن غامد وزهران فقال له الشيخ: «إنه بسبيل كتابة موسوعة جغرافيه عن المملكة العربية السعودية وأن عليك المساهمة في كتابة ما يتعلق بمنطقه الباحة غامد وزهران»، فلم يدخر - رحمه الله - جهدا في ذلك، وقد تطلب العمل القيام بزيارات ميدانية لسراة وتهامة المنطقة مشياً على الأقدام، واستغرق أكثر من شهرين للتأكد من صحة المعلومات التي استمر في جمعها على مدى تسع سنوات، وقد تعرض خلال تلك الزيارات لمخاطر كبيرة، ولكن النتيجة كانت أكبر بكثير حيث قدم للمكتبة السعودية والعربية «المعجم الجغرافي لبلاد غامد وزهران» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1391ه وكان يمثل الجزء الثاني من المعجم الجغرافي العام للمملكة العربية السعودية، وقد طبع للمرة الثالثة عام 1417ه بزيادات نسبتها 70%. ثم جاء كتابه «غامد وزهران السكان والمكان» ليبحث في فروع سكان غامد وزهران في الماضي والحاضر، ومواطنهم في الحاضر التي انتشرت بفضل الأمن والأمان, الذي تعيشه بلادنا في عهد الحكم السعودي، مع تراجم مختصرة لبعض مشاهيرها في الماضي والحاضر والحكومات التي كانت تتبعها المنطقة وصدرت الطبعة الأولى عام 1422ه. وكان كتابه «وثائق من التاريخ» والذي يهتم بجمع الوثائق القديمة المتوفرة لدى مشايخ القبائل وفقهاء القرى والبيوتات العلمية القديمة، وقد صدرت طبعته الأولى عام 1423ه. أما موسوعة الموروثات الشعبية لغامد وزهران والتى جاءت في خمسة مجلدات، وتضمنت قصائد العرضة، واللعب، والمسحباني، والهرموج، والعزاوي، والسامر، والحكم والأمثال، والعادات والتقاليد، وأهازيج الحرث والزراعة والمناسبات الاجتماعية، فتعد أهم موسوعة عن الموروث الشعبي في المكتبة العربية، وتمثل تلك الموسوعة اهتمامه الكبير بتدوين التاريخ الاجتماعي للمنطقة، وقد استغرق جمع معلوماتها أكثر من 25 عاماً وطبعت عام 1415ه. وأتمنى من الله العلي القدير أن يوفقنا لدراسة تراثه في القريب العاجل, وقد تحدثت مع ابنه البار الزميل الأستاذ محمد بن علي السلوك في هذا الموضوع، وقد أبدى استعداده لتزويد أي باحث بتراث والده لدراسة ونشر ذلك. وكان لدى الفقيد - رحمه الله - مكتبة ضخمة تضم أهم المصادر والمراجع في المجالات الأدبية والتعليمية والتاريخية وبعض المخطوطات، وقد بدأ في اختيار مقتنيات مكتبته منذ عام 1375ه، واستطاع بحكم عمله في إمارة المنطقة جمع التاريخ الشفهي والمكتوب من ورثه الفقهاء ومشايخ القبائل السابقين، والمعاصرين للحكم السعودي، وخاصة في ما يتعلق «ببلاد غامد وزهران». وأما وصفه بأنه كان رجل مجتمع ورائد من رواد العمل الاجتماعى والخيرى فقد تجسد ذلك فيما قام به من خدمات اجتماعية متعددة فهو من أوائل المؤسسين لجمعيات البر والجمعيات التعاونية، ففي عام 1388ه قام بإنشاء جمعية تعاونية «بقرن ظبي» كان من أول مشاريعها إنارة القرية والقرى المجاورة، وقد عانى كثيراً في سبيل إنشائها, وتم افتتاح المشروع رسمياً من قبل أمير منطقه الباحة آنذاك الأمير سعود السديري - رحمه الله - عام 1389 ه وكان هذا المشروع أنموذجاً تم الاقتداء به في المنطقة, وقد حضرت هذا الافتتاح مع والدي وأعمامي وشاهدت بأم عيني العمل الجبار الذي قام به رحمه الله. وفي عام 1398ه تم إنشاء الجمعية الخيرية بقرية «قرن ظبي», الذي كان الأستاذ علي رحمه الله الفاعل الأول بعد الله في إنشائها, وقام بافتتاحها معالي الأمير الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز البراهيم أمير منطقه الباحة - رحمه الله -, في ذلك الوقت, وكانت أول جمعية خيرية تنشأ في منطقه الباحة، وشملت خدماتها كل المنطقة, وكان رئيس مجلس إدارتها منذ التأسيس حتى عام 1417 ه. وفي عام 1402ه تم افتتاح الجمعية الخيرية بالباحة وكان من أول المؤسسين لها وقد بذل جهداً في إجراءات التأسيس من إعداد النظام الأساسي واختيار المؤسسين من كافة المنطقة (غامد وزهران) وبقي عضو مجلس الإدارة حتى عام 1418ه. وواصل - رحمه الله - نشاطه الإنساني رغم انتهاء عضويته في مجلس إدارة جمعية قرن ظبي الخيرية وجمعية البر الخيرية في الباحة بعد عمل استمر تسعة عشر عاماً بالدعم والاستشارة. وهو صاحب فكرة إنشاء بلدية مصغرة تابعة للجمعية الخيرية لخدمة قرن ظبي من حيث سفلتة الطرق وتسوير المقابر والآبار وإنارة الطرقات. كما أنه ساهم في تخفيض المهور في قرن ظبي وفي فكرة الزواج الجماعي للتخفيف على الشباب من تكاليف الزواج الباهظة. وما يؤكد عشقه للعمل الاجتماعي والإنساني أنه كان عضواً فاعلاً فى كثير من الجمعيات حيث كان - رحمه الله - عضو جمعية الأطفال المعاقين بالرياض، وعضو الجمعية السعودية لطب الأسرة والمجتمع، وعضو اللجنة المحلية لتطوير منطقه الباحة، وعضو جائزة الأمير محمد بن سعود لحفظ القرآن الكريم، وعضو الجمعية الجغرافية السعودية، وعضو لجنة أصدقاء المرضى، وعضو الجمعية التاريخية السعودية. وأما كونه إدارياً ناجحاً فتشهد بذلك مناصبه الإدارية المتنوعة ومهامه الإدارية العديدة التي تولاها في إمارة منطقة الباحة، ولقد بدأ حياته الوظيفية كاتب أول - وتعني في ذلك الوقت (رئيس مكتب)، وبعد الانتقال إلى العمل بإمارة المنطقة تدرج في الوظائف من رئيس قسم الجنايات والسجون إلى باحث قضايا، ثم رئيس قسم الحقوق الخاصة، فرئيس قسم الحقوق العامة، ثم مدير إدارة التفتيش ومستشاراً لمعالي الأمير الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز البراهيم -رحمه الله-، ثم مدير إدارة شؤون الموظفين، فمدير عام الحقوق، وأخيراً مديراً عاماً للإدارة العامة للشؤون الإدارية والمالية بالمرتبة الثالثة عشرة، إلى أن تقاعد في 1/ 7/ 1419ه، واختير نائباً لرئيس النادي الأدبي بالباحة منذ تأسيسه عام 1416ه، وعضو مجلس منطقة الباحة منذ عام 1422ه. وأما عن صفاته الشخصية فحدث، وعدد، ودون ولا حرج، فقد كان دمث الخلق، يحب الالتزام بالمواعيد، باراً بوالديه، مخلصاً في عمله، دقيقا في ملحوظاته، مطلعٌ، يحسن الإنصات للآخرين، يحب أعمال الخير، يدين بالفضل لأهله، حريصٌ على زيارة المرضى والسؤال عن أحوالهم، يشجع التعليم والقراءة, وكان لي شرف مقابلته - رحمه الله - في إحدى زياراتي للقرية «قرن ظبي», بعد حصولي على درجة الدكتوراه وقد فرح كثيراً وشجعني في المضي قدماً لخدمة مليكي ووطني. وكان - رحمه الله - كريماً في بيته, فقد كان يزور القرية في فصل الصيف كثيرا من أهلها, فكان يعمل كل عام وليمة كبيرة في بيته يحضرها الجميع ترحيباً وفرحاً بكل من حضر. وكان كذلك كريماً في تعامله مع الآخرين يُشهد له بالصلاح والاستقامة والالتزام بالأنظمة والتعليمات، حريصٌ على تنظيم الوقت، كما كان - رحمه الله - قارئا نهما ويروى عنه أنه لما وقعت فى يديه رواية إحسان عبد القدوس «شيء فى صدري» بصفحاتها التى تزيد على 1300 صفحة بدأ السلّوك قراءتها على ضوء الفانوس بعد مغرب أحد الأيام ولم يضعها إلا بعد الانتهاء من قراءتها، وكتابة ملحوظاته على الرواية وكان ذلك في العاشرة من صباح اليوم التالي. وكما خدم مجتمعه باحثاً، ومؤرخاً، وأديباً، وإدارياً، فقد خدمه كذلك أباً ووالداً، حيث قدم لمجتمعه سبعة من الأبناء يخدمون مجتمعهم في وظائف مرموقة فمنهم الآثاري ومنهم المهندس والطبيب ومنهم في السلك العسكري ومنهم المعلم في وزارة التربية والتعليم، ولم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لبناته الأربع حيث يعملن جميعهن في مجال التدريس. تحدث عنه العلامة الراحل حمد الجاسر حيث قال: «إنه من خيرة شباب هذه البلاد، ومن أوسعهم اطّلاعاً على مختلف أحوالها، ومن أعمقهم معرفة، وله مؤلف شامل عن الباحة أطلعني على قسم كبير من مواده، كما رأيت لديه بعض الوثائق التاريخية عن حوادث جرت في تلك البلاد في القرن الماضي، وقد تكرّم بتصحيح أخطاء كثيرة اتفق مع محمد مسفر على أكثرها، وانفرد أحدهما بأشياء عن الآخر، وقد أدمجت كل التصحيحات، كما تكرم علي بالإفادة عن بعض المواضيع القديمة والحديثة ذات القيمة الكبيرة». ولقد أحسنت جريدة الجزيرة وملحقها (المجلة الثقافية) الصادر في عددها 203 السنة الخامسة بتاريخ 3 جمادى الآخرة 1428ه أن قدمت ملفاً تكريمياً مميزاً عنه رحمه الله شارك فيه نخبة من رجال الفكر والثقافة والتراث على امتداد خارطة الوطن. وختاما فإذا كان كل فراق بين الأهل والأحباب يترك في النفس حرقة الفراق، لكنه يترك كذلك أملاً باقياً في تواصل جديد، إلاّ فراق الموت الذي لا أمل في لقاء بعده ولا وصال في هذه الدنيا، وتلك هي مشيئة الرحمن، وكلنا لهذا الدرب سائرون، ذلك هو الموت الذى يغيب الأحباب جسداً، لكن ذكراهم وأعمالهم تبقى ولا تموت، وما قدمه السلوك سيبقيه بيننا فكراً وذكراً، ولا أملك لفقيدنا رحمه الله سوى دعاء بالرحمة والمغفرة لن ينقطع ما حييت، وأن يجازيه ربه عما قدم لبلده وأهله خير الجزاء، ولا أجد ما أرثي به راحلنا الكبير سوى قول الشاعر: إذا فارق الدنيا كريم من الكرماءْ لا تبكوه فعادة العرب لا تبكي النبلاءْ (*)رئيس قسم إدارة موارد التراث والإرشاد السياحي جامعة الملك سعود