«أنتم أصحاب السلطة، ولا سلطة فوق سلطة الشعب. أنتم الحُماة، ومن يبتغي الحماية بعيدًا عنكم فهو أحمق... والكل يسمعني الآن... الجيش والشرطة»، هكذا تحدث رئيس مصر المنتخب محمد مرسي أمام مئات الآلاف من المصريين الذين احتشدوا في ميدان التحرير. لقد أدى الرجل الذي سُجِن في أعقاب «جمعة الغضب» (التاسع والعشرين من يناير - كانون الثاني 2011) اليمين الرئاسية في ميدان التحرير في «جمعة تسليم السلطة» (التاسع والعشرين من يونيو - حزيران 2011). ولكن هل تسلّم السلطة حقًا؟ قبل عشرة أيام، وبالتحديد في التاسع عشر من يونيو - حزيران، كنت مع مجموعة من نوَّاب البرلمان السابقين في ميدان التحرير. ولقد تلقى أحدهم مكالمة هاتفية أبلغه فيها الشخص الذي اتصل به أن أحد كبار قادة جماعة الإخوان المسلمين في الطريق إلى الميدان لكي يعلن أن الجماعة تتعرض للابتزاز: فإما أن تقبل الإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي ينتزع صلاحيات الرئاسة عمليًا، أو لا تُعلَن نتائج الانتخابات الرئاسية لصالح الإخوان. وبعد مرور ساعة، لم يظهر ذلك القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين. ثمَّ أسَرَّ لي النائب السابق قائلاً: «كانت المحادثات على وشك الانهيار، ولكنها استؤنفت من جديد. فلتحبس أنفاسك». إن فوز مرسي الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين بأول انتخابات رئاسية حرة تشهدها مصر يُعدُّ خطوة تاريخية إلى الأمام على مسار التحول الديمقراطي الوعر. والواقع أن منافسه أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء عينه الرئيس السابق حسني مبارك، لم تكن لديه أي فرصة لتحقيق فوز واضح في التصويت، على الرغم من الدعم الهائل الذي حظي به من قِبَل الآلة الدعائية التي تسيطر عليها الدَّولة وعدد من أباطرة المال والأعمال. عندما سألت سائق أجرة عمّا إذا كان سيصوت لصالح شفيق أجابني قائلاً: «كم عدد هؤلاء الذين قد يكون بوسعهم خداعهم أو إقناعهم أو شراء أصواتهم؟ إن ذاكرتنا ليست قصيرة إلى هذا الحد». الواقع أن الثورة المصرية ألحقت ثلاث هزائم بنظام مبارك وبقاياه (الفلول) منذ يناير - كانون الثاني 2011: الأولى بخلع مبارك، والثانية في الانتخابات البرلمانية التي جرت في وقت سابق من هذا العام، ثمَّ المرة الثالثة الآن بفوز مرسي. وبالرغم من هذا فإن نشوء نظام تهيمن عليه المؤسسة العسكرية لا يزال يشكل احتمالاً حقيقيًا. إذ إن سلسلة القرارات التي أصدرها المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم قبيل الانتخابات الرئاسية تشير بوضوح إلى أن المؤسسة العسكرية ليس لديها رغبة حقيقية في تسليم السلطة. كان القرار الأكثر تطرفًا بين تلك القرارات ذلك القاضي بحل البرلمان، الذي صوّت لانتخاب أعضائه ثلاثون مليون مصري، استنادًا إلى حكم صادر عن المحكمة الدستورية العليا المتحالفة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ثمَّ استولى المجلس العسكري على السلطة التشريعية، فضلاً عن سلطة تشكيل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور والاعتراض على الفقرات الدستورية المقترحة. كما شكل مجلسًا للدفاع الوطني تسيطر عليه المؤسسة العسكرية (أحد عشر من قادة الجيش في مقابل ستة مدنيين - على افتراض أن وزير الداخلية مدني). ومن ناحية أخرى، تواصلت الجهود لتضييق الخناق على الاحتجاجات، حيث أصدر وزير العدل، الذي ظلَّ محتفظًا بمنصبه منذ عهد مبارك، قرارًا بمنح أفراد الاستخبارات الحربية والشرطة العسكرية حق الضبطية القضائية وإلقاء القبض على المدنيين بموجب اتهامات قد لا تزيد في خطورتها عن تعطيل حركة المرور أو «إهانة» قادة البلاد. والآن يبدأ الجزء الصعب بالنسبة لمرسي، الذي يواجه صراعًا عنيفًا على السلطة بين المستفيدين من الوضع الراهن الذي خلفه عهد مبارك الجنرالات، وكبار رجال الأعمال، ورموز الحزب الوطني الديمقراطي المنحل، وكبار القضاة، والعاملين في وسائل الإعلام، وكبار موظفي الدَّولة وبين القوى المناصرة للتغيير التي تُعدُّ جماعة الإخوان المسلمين أكبر كياناتها المنظمة. لا شكَّ أن المجلس العسكري لا يعتزم التخلي عن إمبراطوريته الاقتصادية الشاسعة (في ظلِّ مزايا الإعفاء الضريبي، وملكية الأراضي وحقوق مصادرتها، والجمارك وأسعار الصرف التفضيلية، وغير ذلك من الامتيازات). وهو لا يعتزم أيضًا التخلي عن حق النقض (الفيتو) بما في ذلك الاعتراض على كلٍّ ما يتعلّق بالأمن الوطني، وقضايا السياسة الخارجيّة الحساسة (وبخاصة ما يتصل بإسرائيل وإيران)، واتخاذ قرار الحرب وبالتالي مجلس الدفاع الوطني. وفي حالة عدم التوصل إلى حل وسط وتحديد القوى الكفيلة بضمان شروط هذا الحل الوسط فإن حالة الاستقطاب قد تؤدي إلى نتائج خطيرة، تتراوح بين ما حدث في إسبانيا في عام 1982 وما حدث في تركيا عام 1980، أخيرًا السيناريو الأكثر إثارة للجزع والخوف، وهو ما حدث في الجزائر عام 1992 عندما أدى إلغاء النظام العسكري للانتصار الانتخابي الذي أحرزه الإسلاميون آنذاك إلى اندلاع حرب أهلية طويلة ووحشية. وبالرغم من أن جنرالات مصر ليسوا مهددين بأي حال من الأحوال بنفس القدر الذي واجهه أقرانهم في الجزائر في ديسمبر - كانون الأول من عام 1991، فإنهم يتمتعون بالقوة الكافية لقلب كل الطاولات. واعتمادًا على نتائج المفاوضات الجارية بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومرسي، وحجم الاحتجاجات في ميدان التحرير وميادين أخرى، ودرجة الضغط من جانب المجتمع الدولي، فلا يمكننا أن نستبعد اندلاع مواجهة مهلكة. بيد أن السيناريو الأكثر احتمالاً يبدو أقرب إلى ما حدث في تركيا في عام 1980: وهي نتيجة غير ديمقراطية في ظلِّ هيمنة العسكر، ولكن من دون إراقة الكثير من الدماء. في هذا السيناريو يتم حل الجمعية الدستورية الحالية، ويشكل المجلس الأعلى للقوات المسلحة جمعية جديدة على هواه، ويمارس نفوذه القوي على عملية صياغة الدستور من أجل تكريس امتيازاته. أو بعبارة أخرى، سوف يظلَّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وليس الرئيس المنتخب، الفاعل الحقيقي المهيمن على السياسة المصرية ومن المرجح أن تعمل هذه النتيجة على توليد مقاومة مستمرة من قِبَل القوى المناصرة للتغيير. وبوسعنا أن نعد النتيجة الأفضل والأكثر تفاؤلاً هي تلك الأشبه بما حدث في إسبانيا في عام 1982. فبعد فوز حزب العمال الاشتراكي الإسباني في الانتخابات البرلمانية وتشكيله للحكومة في شهر أكتوبر - تشرين الأول من نفس العام، قبلت المؤسسة العسكرية اليمينية قواعد اللعبة الديمقراطية الجديدة وأحبطت محاولة الانقلاب التي سعت إلى عرقلة تقدم اليسار. كما بادر حزب العمال الاشتراكي الإسباني إلى إعادة ترتيب صفوفه على طول خطوط أكثر اعتدالاً، فتخلى عن السياسات الماركسية، وقاد برنامجًا إصلاحيًا شاملاً أطلق عليه «التغيير». إن حدوث مثل هذا السيناريو في مصر من شأنه أن يعزز من آفاق التحول الديمقراطي. ولكن قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يُظهِروا حتَّى الآن أي رغبة في محاكاة جنرالات إسبانيا. ومن جانبها فإن قيادات الإخوان المسلمين تتبنى عادة نهجًا تدريجيًّا كارهًا لخوض المجازفات في إدارته للأزمات. ولكن الإبقاء على هذا النهج في مواجهة وضع ثوري لن يكون بالأمر السهل على الإطلاق. أن إحراز المزيد من التقدم على مسار التحول الديمقراطي يتطلب من مرسي الحفاظ على سلامة التحالف الواسع النطاق بين الإسلاميين وغير الإسلاميين الذين أتوا به إلى قمة السلطة في مصر - ودعم قدرة هذا التحالف على الحشد في التحرير وغيره من ميادين مصر. كان الانتقال الناجح من الحكم العسكري إلى الحكم المدني في تركيا وإسبانيا وأماكن أخرى من العالم يعكس جزئيًّا دعمًا أمريكيًا وأوروبيًّا قويًا. ولكن لعلَّ الأمر الأكثر أهمية يتلخص في احتياج مرسي إلى تحقيق إنجازات ملموسة على الجبهة الاقتصادية وجبهة الأمن الداخلي لتعزيز شرعيته في الداخل. وإلا فإن جنرالات مصر لن يعودوا إلى ثكناتهم في أي وقت قريب. د.عمر عاشور مدير برنامج الدراسات العليا في سياسة الشرق الأوسط لدى معهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر، وزميل زائر لدى مركز بروكنجز الدوحة، ومؤلف كتاب «تحولات الحركات الإسلامية المسلحة». حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012. www.project-syndicate.org