إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا والدي لمحزونون, فالحمد لله على قضائه وقدره ونحن صابرون اِمتثالاً لقول ربنا عز وجل الذي قال في محكم التنزيل: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ}. سورة البقرة نعم إنها نبضات قلب ابنك إليك أبي اِسمح لقلمي أن يخوض غمار قلبك وأي قلب... أَأَتحدث عن الحنان والعطف الكبير الذي شملتنا به جميعًا أبناءً وأحفادًا وأسباط... لم ولن أصدّق قلمي مهما وصف فليس جديرًا ولا أهلًا للوصف، فشعورنا جميعًا بحنانك وعطفك لا يمكن تصوره ووصفه. يا الله ما أجمل حبك.. عندما كنتُ صغيرًا كان يطرق مسمعي كلمة «نبع»! فكنت أتصور أنّهم يقصدون قلبك أليس هو نبع الحب والعطف والحنان الذي تدفّق للجميع..! وعندما أقول الجميع لا أقصد عائلتك الخاصة بل جميع أبناء وبنات أسرتك وأصدقائك وأحبابك. وامتد حبك وعطفك وحنانك إلى جميع من يقابلك، وكم تكرّرت على مسامعي أنا وإخواني عبارات النّاس الّتي تقول لنا ما أسعدكم بهذا الأب ونحن نقول هذا من توفيق ربّنا ولله الحمد أن جعل لنا والدًا حنونًا حبيبًا محبًّا مثلك يا صاحب القلب.. أرني يا قلمي...حديثك عن تسامح أبي.. لقد كنت يا والدي أنت والتّسامح رفيقا دربٍ لا يفترقان، فمهما أُغْضِبت فما أسرع تسامحك وعفوك والأعجب من ذلك أنّك تطلب الصّفح وأنت صاحب الحق (من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويدًا وتجي في الأول). اِنطلق يا قلمي... للحديث عن تواضع أبي للجميع، صغيرًا وكبيرًا، فقيرًا وغنيًا، وضيعًا ورفيعًا.. كثيرًا ما رافقتُ والدي في زياراتٍ ومناسبات فأتعجّب من تواضعه، تجده بدايةً يقف طويلًا مع الصّغار يمازحهم ويسأل عن أخبارهم ودراستهم وحفظهم لكتاب الله، وكنت أقف مندهشًا وأتأمله وأردد في نفسي من يملك مثل قلبك والدي رحمك الله، وكم زار وزار من أبنائه وأقربائه وأصحابه رغم أنه صاحب الحق وأكبرهم سنًا لكنّه التواضع هو الذي قاده لذلك. قلمي... هل تريد أن تجرّب الكتابة عن الوصل؟ فهذه لوحدها تحتاج إلى أقلام وأحبار، فتواجده وتواصله مع الجميع لا حدود له ولا تكاد تكون هناك مناسبة أو اجتماع إلا تجده أول الحضور... مداد قلمي..... أخبرني عن حب أبي للمساكين، فلو تحدّث هاتف أبي وجرس بيته لحكى لنا قصصاً أشبه بالخيال عن عددهم وحاجاتهم بل لو تكلمت مائدة إفطارك يا والدي في رمضان لقالت العجب العجاب عن روادها من مختلف الجنسيات. قلمي... كأنّك تطالبني أن أسمح لك بالتّطرق إلى شفاعات أبي، يكفي أن أقول فيها إنّه ممن جعل الشّفاعة سبيلاً، نعم فهناك من يجعل ماءً سبيلاً.. أمّا والدي فقد كانت الشّفاعة لديه سبيلاً للجميع يعرفه أو لا يعرفه، بل هو من يعرض خدماته على الجميع وفي كل مكان (رحمه الله)، فإمّا يذهب مع ذي الحاجة، أو يكتب له خطابا، أو يحدّث من يساعده هاتفيًا... وكان رحمه الله دائماً يردد قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} (النساء: 85). ويكرر على مسامعنا دائمًا وأبدًا هذا الحديث الذي جاء فيه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجةٍ أقبل على جلسائه فقال: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب» متفق عليه. قلمي... هل تستطيع أن تختم حديثك عن حب والدي للقرآن وتلاوته والتّلذذ بتفسير معانيه، فقد كانت عبرته تسبق عبارته عندما يتحدّث عن كتاب الله، والمجالس تسعد بحضوره لأنّه يحيي ذكر الله فيها كما كان نصيب سيرة حبيبنا صلى الله عليه وسلم محمد بن عبدالله دائمًا على لسانه مرددًا وذاكرًا لها. قلمي... ويحك!!! ماذا دهاك ولماذا توقفت عن ذكر شمائل والدي، أتراك أحسست أنك لست أهلاً ولا جديرًا بأن تصفها أم أنّك عجزت عن تعدادها، لكنّك إن عجزت عن ذلك، فإنّا قد وجدناها وأحسسناها بدموع وعبارات المعزّين لنا فهذا متأثّر وذاك يبكي وآخر حزين، يا الله «أنُعزَى أم نُعزِّي» لقد حارت العبارات وتساقطت العبرات لفراقك غفر الله لك... طبت حيًا وميتًا يا والدي الحبيب. و لكن عزاءنا فيك ذهابك إلى رب أرحم وألطف وأكرم وأجود بك منا وكم كانت بشائر الخير كثيرة ولا نزكيك على الله ولكن هي البشارات العاجلة للمؤمن فقد صلت عليك الألوف وقد جاء عن رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «ما من رجل يموت ليقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه» رواه مسلم. وأثنى عليك الألوف وقد قال الحبيب المصطفى في حديث زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مرّ على النّبي صلى الله عليه وسلم بجنازة رجلٍ من الأنصار فأُثني عليه خيرًا فقال وجبت ثم مر عليه بجنازة أخرى فأُثني عليها دون ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت، فقالوا يا رسول الله وما وجبت؟ قال الملائكة شهود الله في السماء وأنتم شهود الله في أرضه». وستشهد لك بإذن الله بيوت الله ومنابرها فلا يخلو مسجدٌ صلّيت فيه من موعظة وإرشاد ونصيحة قدمتها للمصلين.. بل إن أغلب الأئمة الّذين تصلي معهم يطالبونك بإلقاء كلمة بعد الصلاة بمجرد رؤيتهم لك دون أن تطلب ذلك لعلمهم بمدى حرصك على النصيحة والموعظة لعموم المسلمين.. رحمك الله.. فالحمد لله على قضائه وقدره. وفي الختام أتقدّم لكِ والدتي الحبيبة بصادق العزاء والمواساة في رفيق دربكِ أعظم الله لك الأجر والمثوبة فقد كنتِ خير معين له في دروب هذه الحياة ونعم الزوجة الصالحة الصادقة الصدوقة.. حفظكِ الله حبيبتي وأمد بعمرك على طاعته، فأنت الخيمة الّتي نستظل بها يا أغلى من في الوجود. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجمعنا وإياك وإياه ووالديكم ومن نحب والمسلمين في جنات النعيم. إخواني الأعزاء أختي الغالية، غفر الله لوالدنا ورزقنا الله برّه بعد مماته كما جاء في الحديث الشريف: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم. والوالد رحمه الله جمع كل هذه الثّلاث ولا نزكيه على الله فقد بذل من الصدقات ما الله به عليم نسأل الله القبول، وأمّا العلم فطلابه كثر وليس المجال مناسب لسردهم، ولكن يكفي أن نقول إن الكثير منهم أساتذة في الجامعات ودعاة ومربين، والولد الصالح هم أنتم ولله الحمد ولا نزكي أحدًا على الله... ونحن بإذن الله على دروب المحبة التي غرسها وربانا عليها سائرون. والعزاء موصول لوالد الجميع العم عبدالله بن عبدالمحسن التويجري -حفظه الله- وأبنائه وأحفاده وكذلك أبناء وأحفاد الوالد حمد بن عبدالمحسن التويجري -رحمه الله- وأبناء وأحفاد العم عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري -يرحمه الله- وإلى جميع أسرة التويجري وجميع أحبابه وأصحابه. جمعنا الله وإياكم ووالدينا ووالديكم ومن نحب في جنّات النّعيم إخوانًا على سرر متقابلين. وقد توفي رحمه الله يوم الخميس 10-7-1433ه وصلي عليه يوم الجمعة 11-7-1433ه في مسجد الراجحي بعد صلاة الجمعة ودفن في مقبرة النسيم رحمه الله رحمة واسعة. ابنك/ جمال بن عبدالمحسن بن محمد التويجري