كان يوماً أليماً وحزناً كبيراً ومصاباً جللاً، حينما ودع إلى مثواه الأخير صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، الذي وافته المنيّة يوم السبت 26-7-1433ه، والذي نعاه ببالغ الأسى والحزن أخوه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز. كان المصاب صدمة ومفاجئاً جللاً عايشه أبناء هذا الوطن، والأمّتان العربية والإسلامية مشاعر اختلطت بالدموع والحزن... بكاك الوطن يا نايف... بكاك تراباً وإنساناً... وكل فرد من أبناء الوطن صغيراً وكبيراً. كيف لا وأنت حامي درع هذا الكيان العظيم أمناً، تسهر على راحة الناس وتحمي حياض الوطن الغالي كما كنت صمام الأمن بعد الله. لقد توقفت ابتسامتك التي لا تفارق محياك طيلة حياتك كل بقعة تطأها قدماك، وكل مناسبة لها ابتسامة دائمة. وفي أحلك الظروف في السراء والضراء .. بكاك الوطن قاطبة.. بكتك كل عين وحزنت على فراقك (يا أبا سعود) الموت حق... أجل مكتوب لكن فقدك فجيعة أكبر من الحزن.. وأحر من الدمع، كان هذا الخبر صاعقاً لأبناء هذه الأمة فجعنا.. وفجع العالم بأسره مع كامل التسليم بقضاء الله وقدره.. نعم (يا أمير نايف) شخصية عظيمة خريج مدرسة والده الملك (عبد العزيز بن عبد الرحمن) كيف لا وهو المؤسس لهذا الكيان الذي خرج من مدرسته ملوك هذه البلاد من أشقائه، لقد عايش وخدم الوطن فكان الدرع الواقي والحصين ومدافعاً عن حياض هذا الكيان العظيم، ابتداءً من تولِّي المسؤولية مبكراً، فكان أول منصب تولاّه وكيلاً لإمارة منطقة الرياض ومن ثم أميراً لها ووزيراً للداخلية ونائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء إلى أن توّج ومنح الثقة الكبيرة الغالية وتعيينه وليّ العهد. (نايف) هو الإنسان صفته الهدوء والشهامة والكرم والسخاء، والسياسي المحنك والقوة والحزم والصلابة تصدّى للشدائد والملمّات والأزمات، ورجل دولة وعلم من أعلام هذه البلاد الطيبة يفتخر به القاصي والداني، له إنجازات على الصعيد الأمني المحلي للحفاظ على أمن البلاد ودرأ الأخطار عنها. وعلى المستوى العربي ترأس مجلس وزراء الداخلية العرب الذي فاكتسب المجلس هيبته وحنكته. ويُعد (يرحمه الله) الأبرز بين وزراء الداخلية العرب، إذ استطاع بحنكته (يرحمه الله) وبفضل من الله وبقوة وعزم لا يلين، أن يتصدّى للعابثين بأمن البلاد من الذين قاموا بتنفيذ بعض الأعمال الإجرامية والتخريبية، بالإضافة إلى تجفيف منابع الإرهاب، كما استطاع أن يحافظ على اللحمة الوطنية وتأكيد سيادة شرع الله على الجميع وبث الروح الإسلامية السمحة بين أبناء الوطن وبذلك الجهد، من خلال التوعية الفكرية يوازيها العمل الأمني مع رجالات الوطن المخلصين، وتعامل مع الإنسان السعودي بكل شفافية وصدق ووضوح، وهو العين الساهرة التي لا تكل ولا تهدأ ولا تعرف الراحة في سبيل أمن الوطن على خارطة البلاد المترامية الأطراف بأمن وطمأنينة، فهو رجل دولة وسياسي محنك ومتمرس، ملم بالقضايا الداخلية والخارجية، إعلاميّ الطرح متزن ومتحدث ولبق يحترم الرأي الآخر ينصت له الجميع، تصريحاته محاطة بسياج إيماني ينبع من قوة العقيدة الإسلامية، صقلته الحياة فكان محافظاً بعيداً عن التهور أو زلة اللسان، علّمته الصعاب عن كيفية التعامل مع الغير في أحلك الظروف والعواصف. أحاديثه ومؤتمراته الصحفية والإعلامية طوال السنين لازالت في ذاكرة الجميع، مدرسة إعلامية من الطراز الأول، فالفقيد الأمير ولي العهد نايف بن عبد العزيز، كان يتلمّس هموم ومتطلّبات بناء الإنسان السعودي وأمنه، فكان لقاؤه الأهم في ندوة (الحوار المفتوح) مع هيئة التدريس وطلاب جامعة الرياض سابقاً في أواخر عام 1980م، وتحديداً بعد فترة من تطهير الحرم الشريف من المعتدين والطغمة الإجرامية الذي أشرف عليها. كانت صراحة سموه المعهودة وشفافيته المسؤولة لكل معاني الإخلاص والتضحية في سبيل الحفاظ على كيان هذه الأمة، فقد كان لكل إعلامي منهج عمل وحياة، والذي تعرفت من خلاله على فكره وثقافته في عدّة مناسبات، ورغم اتساع مسؤوليته الجسام واتساع ورحابة صدره، هذا قبل تسعة وعشرين عاماً، هذا الأمر يمثل نظرته الثاقبة وحنكته السياسية وتطور الأحداث، إنه مدرسة متميزة متفوقة خرجت رجالاً متمرسين بالتعامل الأمني والإنساني والإداري، بجانب مسؤولياته ومهمّاته الوطنية وتصديه للأحداث والأزمات، حيث وقف حامياً ودرعاً للوطن لكل المحاولات اليائسة من المعتدين للنّيل من حياض الوطن. نعم سمو ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز، خاض معركة ناجحة وبامتياز في مواقعها مع العناصر ذات الفكر المتطرّف، والمغالية. وعلى المستوى الفكري والمناصحة والحوار مع المتشددين والمغاليين في توجهاتهم الفكرية، ولتطهير عقولهم وتغليب الوسطية والاعتدال، مثل ذلك تسامحه وشهامته وإنسانيته ومساندته للأُسر التي ضلّ أبناؤها عن جادة الصواب والطريق المستقيم، ويحفزها ويطمئنها بأنهم جزءٌ من هذا الوطن، وأن انحراف شخص لا يمثل الآخرين وإنما يمثل نفسه، كان هذا النهج مصدر الاطمئنان لهذه الأُسر التي وجدت من سموه كامل العناية والدعم المادي والمعنوي، لقد تهافتت عدة دول على المستوى الإقليمي والدولي لمعرفة الإستراتيجية التي بحمد الله طوّقت الأحداث الإرهابية للاستفادة منها، ووقوف الجبهة الداخلية من المواطنين صفاً واحداً مع رجال الأمن لتبقى البلاد واحة أمن، بحيث أصبح المواطن رجل الأمن يبادر بالإبلاغ عن كل المجرمين. معركة ولي العهد الفقيد الأمير نايف بن عبد العزيز ضد الإرهاب التي هو فارسها، حظيت بكل تقدير من الأسرة الدولية، وطالبت عدة دول بضرورة الاقتداء بها والاستفادة منها، فكانت ضربة ميدانية للعناصر الضالة، يضاف إليه النجاح في الاحتواء الفكري لهذه العناصر، وكشف زيفهم وأفكارهم الخاطئة حتى لا يتأثر بها المخدوعون، ولقد سجلت هذه التجربة نجاحاً أشادت به كل الدول المتقدمة. إنّ موسم الحج من الإنجازات والمهام الصعبة والبطولة لرجال الأمن للسيطرة على هؤلاء الحجيج لفترة زمنية وبمساحة محدودة، أثبتت النجاحات التي تتحقق وبتوجيه من سموه خير مثال على ما تبذله القطاعات الأمنية من جهود وتضحية في كل عام، منذ دخول هؤلاء الحجيج المعابر والمنافذ إلى حين مغادرتهم من البلاد، ولهو خير شاهد على الإنجاز الكبير، وبما يوفر من خدمات ومستلزمات لضيوف الرحمن من خلال ترؤسه للجنة الحج العليا. أما على المستوى الإعلامي فكان له أن ترأس المجلس الأعلى للإعلام سابقاً، وقد أسس رؤية للعمل الإعلامي فكرياً ومهنياً استند على السياسة الإعلامية ينطلق من الإسلام قيمة وثقافة المجتمع فكانت المعالجات الإعلامية، ومما قاله في تقديمه للسياسة الإعلامية «إن السياسة الإعلامية لم تأت من فراغ وإنما جاءت استجابة للمتطلبات الحضارية المتنامية في المجتمع السعودي، وتأكيداً لأهمية الدور الذي يؤديه الإعلام على المستويين الداخلي والخارجي»، نعم إنها معاني وكلمات تنسجم مع ما نحن في هذا اليوم من متغيرات لمسها القاصي والداني وكلمات لها دلالاتها انطلقت من رجل الإعلام الأول استشرفها قبل تسعة وعشرين عاماً ومراعاة لمتطلّبات الواقع مع الحفاظ على الوقت ذاته على القيم السامية والعقيدة الراسخة في أسس هذا الكيان. إن التنوع والمكونات في شخصية ولي العهد الأمير نايف بن عبد العزيز وشموليتها على المستويين المحلي والدولي وأبعادها الدينية والإنسانية حيث أسس الجائزة العالمية باسم سموه لخدمة السنّة والدراسات الإسلامية المعاصرة، وكذلك رعايته للجان الإغاثة لعدد من شعوب دول العالم التي في مقدمتهم فلسطين ولبنان وباكستان وغيرها من الدول، يضاف إلى ذلك الملف الإنساني الناصع لمواقفه الإنسانية في تكفله بعلاج كثير من الحالات المرضية لمواطنين ومقيمين، وتبرعه بعدد من كراسي البحث العلمي الهامة منها كرسي بحث في السنّة النبوية والأمن الفكري وتبرعه المستمر المتواصل من حسابه الشخصي لعدد من المؤسسات والجمعيات والجهات الدعوية والخيرية ورعايته وترأسه لكثير من لجان لحملات الإغاثة. لقد تحمل الفقيد - رحمه الله - بسعة صدره ونبل مشاعره وكريم أخلاقه الكثير لتحقيق طموحات خادم الحرمين الشريفين، وتأمين الأمن والأمان لإسعاد ورفاهية شعب المملكة العربية السعودية، ونجح بعون الله وبجهود المخلصين من حوله من أشقائه ورجال الوطن المخلصين ببناء مؤسسات أمنية على أساس عصري وأكاديمي متميز فشهد له القاصي والداني ما رسم وخطط لها المغفور له بإذن الله. أي كف... تمسح الدمعة من على خد مكلوم مفجوع؟.. يا فقيد الوطن ونحن نودعك اليوم لا ننسى كل عطاء وبذل تعلّمنا منك السخاء.. سنوات عمرك أفنيتها في خدمة وطنك وشعبك في هذا اليوم الكل ينثر الدموع.. وهو ينظر إلى لحظة (الوداع الأخير) تنقل إلى مثواك.. رحيلك مهيب.. ومهابة.. رحيلك ومأتمك حزين.. كيف لا وهي مشاعر كل مواطن.. كيف ونحن سوف نفقدك وتختفي ابتسامتك التي تشرح النفوس، والتي تتوزّع بكل أرجاء الوطن، نعم سوف تتوقف اعتباراً من هذا اليوم، نعم هذا أمر الله وقضاؤه ما عدا مآثرك وأعمالك والباقيات الصالحات، رحيلك وفراقك هذه الدنيا سيترك فراغاً كبيراً.. ولكنا مؤمنون وخاضعون لإرادة الله وقضائه - وعزاؤنا بمن يخلفك من أشقائك الميامين... ودرعنا وسندنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز قائد سفينة هذه البلاد وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع وأشقاؤه وأبناء الشعب المخلصون والأوفياء والذين هم أهل لهذه الملمّات والأزمات للإبحار بهذا الكيان إلى شواطئ الأمان والاستقرار بإذن الله، وإن رحلت بجسدك فإنّ قامتك وشموخك والريادة التي حققتها طوال عمرك ستبقى ذكرى عطرة وتمجد سيرتك تعطر كل أرجاء الوطن، تاريخك المضيء المشرف ومواقفك تخلِّد ذكراك إلى الأبد. رحمك الله يا نايف الإحسان والإنسانية والخير والأمن والأمان فغيابك فجيعة! وأسى وحزن يلف كل نهارات الكون، لن ننسى تحمُّلك للمواقف الحالكة التي واجهتك في جهادك ودفاعك وتفانيك عن حياض الوطن وآلامك ومرضك في الأيام الأخيرة من حياتك، فما أعظمك من إنسان!؟، يدك الكريمة الممدودة بعطائك السخي التي تصل إلى الأيتام والمحتاجين والثكالى والمهمومين توزع الابتسامة على شفاههم وتزيل همومهم في كل مكان. (اللهم اجعل كل ما قدمته في موازين حسناتك خالصاً لوجه الله كريم وما قدمته من عمل إنساني في خدمة دينك أجراً عظيماً في آخرتك، اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، وهوّن عليه السؤال ويسِّره، واجعله في عليين مع الشهداء والأنبياء والصديقين، ومن رضيت عنهم وشملتهم برحمتك غفرانك واغسله بالماء والثلج والبرَد، ونقِّه من الخطايا والذنوب كما ينقّى الثوب الأبيض من الدّنس، واجعل ما مضى له من تعب وألم ونصب طهوراً له من أدران الدنيا، فاللهم لا نملك إلاّ الدعاء ومنك الإجابة. فاقبله منا إنك أنت العزيز الرحيم واجبر مصاب الأمة في رحيله، فعليك اللهم الرحمة والمغفرة ولنا من الله العزاء وجبر المصاب). وبهذا أتقدم بأحر التعازي والمواساة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وسمو سيدي الأمير سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع والأسرة المالكة والشعب السعودي والأمّتين العربية والإسلامية. (إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن وإنا لفراق عبدك نايف بن عبد العزيز لمحزونون ودعاؤنا بأن تغشاك رحمة واسعة من رب السموات والأرض، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. محمد بن عبد الله السلامة